تخيل عيادة صغيرة في منطقة ريفية بدولة نامية، مجهزة ببعض أجهزة التصوير البسيطة، لكن دون توفر قواعد بيانات ضخمة من الصور الطبية المعلَّقة بتعليقات الخبراء. الآن، تخيل وجود مريض يحتاج إلى تشخيص سريع ودقيق، ربما لآفة جلدية أو ورم مشبوه، لكن دون وجود أطباء أشعة خبراء أو آلاف الصور المشروحة.
باحثون في جامعة «كاليفورنيا» في سان دييغو تصوروا مثل هذه الحالات وقدموا لها حلاً مبتكراً. إنها أداة ذكاء اصطناعي جديدة تستطيع تحليل الصور الطبية باستخدام كمية بيانات مشروحة أقل بـ20 مرة مقارنة بالطرق التقليدية. هذا الابتكار قد يجعل المساعدة التشخيصية المتقدمة أكثر سهولة وكفاءة، حتى في البيئات ذات الموارد المحدودة.
تُعد عملية تجزئة الصور الطبية أي تمييز كل «بكسل» في الصورة لتحديد النسيج المريض من السليم ركيزة أساسية في التشخيص المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
عادةً، تحتاج نماذج التعلم العميق إلى كميات ضخمة من البيانات المعلَّقة يدوياً، وهي عملية مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً. وفي حالات كثيرة، خصوصاً مع الأمراض النادرة أو الحالات السريرية المتخصصة، لا تتوفر مثل هذه البيانات على نطاق واسع، مما يجعل النماذج عالية الدقة غير متاحة لكثير من المستشفيات.
ولمعالجة هذه الفجوة، طوّر الباحث لي تشانغ، والدكتور بينغتاو شيه من جامعة «كاليفورنيا» في سان دييغو أداة ذكاء اصطناعي قادرة على التعلم من عدد قليل جداً من الصور المشروحة، أحياناً لا يتجاوز 40 صورة. ورغم هذا الانخفاض الكبير في حجم البيانات، فقد حقق النظام أداءً يضاهي، بل ويتفوق أحياناً، على النماذج التقليدية التي تعتمد على بيانات أكبر بكثير.
تتيح أداة الذكاء الاصطناعي تحليل الصور الطبية ببيانات مشروحة أقل بـ20 مرة من الطرق التقليدية (Nature Communications)
السر وراء هذا الإنجاز يكمن في الدمج الذكي بين توليد البيانات الصناعية والتحسين التكراري. في البداية، يتعرف الذكاء الاصطناعي على مجموعة صغيرة من الأمثلة التي يحدد فيها الخبراء مناطق الاهتمام مثل الأورام أو الآفات الجلدية على الصور الطبية. وبعدها يبدأ النظام في إنشاء صور اصطناعية تحاكي مظهر الأنسجة المريضة والسليمة.
هذه الصور الصناعية تصبح مادة تدريب إضافية للنظام. والأمر الأهم أن العملية تفاعلية، فكلما ولّد النظام صوراً جديدة، يقيم تأثيرها على تحسين الأداء، ويعدل استراتيجيته بناءً على النتيجة. بهذه الطريقة، تصبح عملية توليد الصور جزءاً من دورة تدريب وتغذية راجعة مستمرة.
اقرأ ايضا: الأهلي يتفق مع الخليج لضم أبو الشامات
خضع هذا الأسلوب للاختبار في مجموعة واسعة من المهام الطبية. منها التعرف على الآفات الجلدية في صور الجلد المجهري، وتحديد أورام الثدي في صور الموجات فوق الصوتية، ورسم أوعية المشيمة في صور المنظار الجنيني. أيضا اكتشاف سلائل القولون في لقطات تنظير القولون، وحتى تحديد تقرحات القدم في الصور الفوتوغرافية.
كما تم تمديد التقنية لتشمل الصور ثلاثية الأبعاد، مثل تجزئة الحُصين والكبد في صور الرنين المغناطيسي، مما أظهر مرونتها العالية. وفي البيئات محدودة البيانات، حقق النظام زيادة في دقة التجزئة بنسبة تراوحت بين 10 و20 في المائة، رغم استخدامه جزءاً بسيطاً من البيانات المطلوبة في النماذج التقليدية.
التقنية قادرة على التعلم من عدد قليل جداً من الصور المشروحة أحياناً لا يتجاوز 40 صورة (غيتي)
هذا الابتكار ليس مجرد إنجاز خوارزمي، بل هو أداة مصممة للتأثير العملي. على سبيل المثال، يمكن لطبيب الأمراض الجلدية أن يعلّق على 40 صورة فقط باستخدام المجهر الجلدي، ثم يدرب النظام ليصبح قادراً على تحليل صور المرضى الجدد فوراً، مع تحديد السمات المثيرة للقلق بدقة وسرعة.
التأثير يمتد إلى العيادات ذات الموارد المحدودة، والوحدات الطبية المتنقلة، والمناطق التي تفتقر إلى الأطباء المتخصصين. والأهم، أن الباحثين يخططون لتعزيز قدرات النظام بإدخال الأطباء في حلقة التدريب، بحيث يتم جمع ملاحظاتهم الفورية لتحسين النموذج أكثر. هذا الدمج بين خبرة الإنسان وقابلية الذكاء الاصطناعي للتكيف قد يغيّر قواعد تطوير ونشر الأدوات التشخيصية.
الانعكاسات المحتملة لهذا الابتكار كبيرة منها ديمقراطية التشخيص بالذكاء الاصطناعي، خصوصاً للمستشفيات التي لا تملك قواعد بيانات ضخمة يمكنها الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين الرعاية.
كذلك خفض التكلفة والوقت، إذ إن توليد بيانات صناعية يقلل العبء عن الخبراء في تعليق آلاف الصور يدوياً. إضافة إلى التوافق مع مختلف الوسائط، من الصور الفوتوغرافية والموجات فوق الصوتية إلى الرنين المغناطيسي وتنظير القولون، ينجح النهج في صيغ متعددة. تشمل الانعكاسات أيضاً التعلم المستمر، حيث إن آليات التغذية الراجعة المدمجة تمكن الذكاء الاصطناعي من التطور مع تراكم المعرفة الطبية.
ولهذا الابتكار أثر على الصحة العالمية خصوصاً في البيئات منخفضة الموارد، يمكن أن يكون هذا الابتكار مفتاحاً لاكتشاف الأمراض مبكراً وتحسين النتائج الصحية.
يمثل هذا الابتكار من جامعة «كاليفورنيا» في سان دييغو أداة مساواة قوية. فهو قادر على إتقان تجزئة الصور الطبية بمدخلات محدودة، بفضل توليد البيانات الصناعية ودورات التغذية الراجعة، مما يتيح تقديم تشخيصات عالية المستوى حتى للمراكز التي تفتقر للبنية التحتية اللازمة.