بين واقعة حقيقية عاشتها نجران (جنوب السعودية) قبل سنوات، وشاشة السينما التي تبحث عن القصص الأصيلة، وجد المخرج السعودي أسامة الخريجي طريقه إلى فيلم «سوار»، حيث لم ينجذب إلى قصته بوصفها حادثة لافتة فحسب، بل لأنها تختصر أسئلة كبرى عن الهوية والانتماء والعائلة، وتختبر قدرة الإنسان على التكيّف مع مصائر لم يخترها.
بهذه الرؤية السينمائية، اقترب الخريجي من الحكاية التي وقعت أحداثها في عام 2003، بعد تبديل طفلين عن طريق الخطأ، أحدهما سعودي والآخر تركي، ليعالجها سينمائياً في الفيلم الذي احتل المركز الثالث في شباك التذاكر السعودي، حسب التقرير الأسبوعي الأخير لهيئة الأفلام، وهو فيلم وضع الخريجي فيه ثقلاً على بناء تجربة بصرية تكشف عن تعقيدات الهوية وتشابك المشاعر ضمن ثقافتين مختلفتين، مما يطرح تساؤلات عميقة حول الانتماء والهوية.
المخرج أسامة الخريجي يعطي توجيهاته خلال تصوير الفيلم (الشرق الأوسط)
القصة التي ألهمت الفيلم ليست مجهولة للجمهور السعودي، إذ شاهدها كثيرون لأول مرة عبر برنامج «الثامنة» مع داوود الشريان، الذي كان يُعرض على قناة «MBC» قبل سنوات، ورُويت تفاصيل واقعة تبديل طفلين بين عائلتين مختلفتين، لتبقى في ذاكرة المجتمع قصةً استثنائية، تمس المشاعر وتثير النقاشات، يقول الخريجي: «ظلت الحكاية عالقة في ذهني لأعوام، لأنها تمس مشاعرنا جميعاً وتطرح أسئلة عميقة عن الهوية والانتماء والقدر».
يتابع حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالقول: «ما جذبني تحديداً هو أنها حادثة حقيقية محفورة في الذاكرة السعودية، وأردت أن أقدمها ليست بوصفها حكاية مأساوية فحسب، بل على أنها عمل إنساني يفتح باب التأمل في العلاقات والأسر والمجتمع». وبسؤاله عن تحقيق الفيلم المركز الثالث بعد أيام من عرضه في السعودية، يقول: «أرى أن الإقبال جاء لأن العمل جمع: قوة القصة، والتنفيذ الفني المتقن، والتواصل الحقيقي مع الجمهور. كما أن الجمهور السعودي متعطش للقصص المحلية التي تعكس حياته، ويرغب في مشاهدة تفاصيل ثقافته على الشاشة بأسلوب صادق ومحترف». ويضيف: «نحن لم نراهن على أسماء نجوم لجرّ الحضور، بل على نص محبوك وإخراج يحترم عقل وذائقة المشاهد، وهذا الرهان بدأ يؤتي ثماره في شباك التذاكر».
يُظهر الفيلم العادات والتقاليد النجرانية بوضوح (الشرق الأوسط)
اقرأ ايضا: بتنفيذ شركات سعودية وعمانية… بدء أعمال المنطقة الحرة في الظاهرة
القصة الحقيقية وقعت في نجران، التي ظهرت خصوصيتها الثقافية والاجتماعية بوضوح خلال الفيلم، بسؤاله عن ذلك يجيب الخريجي: «منذ البداية، تعاملت مع نجران ليست كخلفية للأحداث، بل كشخصية رئيسية في الفيلم.. استعنت بفريق من أبناء المنطقة، وحرصنا على أن تعكس مواقع التصوير، لهجة وعادات وتفاصيل نجران الحقيقية، لتشعر كأنك تعيش داخلها لا أنك تراها من بعيد».
ويؤكد أن نجران أضفت على الفيلم بعداً فلسفياً عميقاً، حيث تتجلى الهوية المتجذرة في طفل لا ينتمي بيولوجياً إليها، لكنها تصبح جزءاً من كيانه وانتمائه، حسب وصفه. وبسؤاله عن التحديات التي واجهته في العمل، أشار إلى التحدي في التعامل مع ثقافتين متنوعتين في القصة وأماكن التصوير، مبيناً أن ذلك تطلب دقة في التفاصيل لضمان صدق الصورة، ويتابع: «واجهنا كذلك تحديات التصوير في بلدين مختلفين (السعودية وتركيا) بما يحمله ذلك من اختلافات لوجيستية وإنتاجية، إضافةً إلى ذلك، ضمَّ العمل ممثلين يخوضون التجربة لأول مرة، وكان علينا الاستثمار في تدريبهم وتهيئتهم ليقدموا أداءً يليق بواقعية القصة».
واجه الخريجي تحدي العمل على ثقافتين مختلفتين في فيلم واحد (الشرق الأوسط)
ولأن الفيلم يستند إلى واقعة حقيقية، فقد حرص فريق العمل على التنسيق المسبق مع أصحاب القصة المستوحى منها، كما يؤكد المخرج. وبسؤاله عن أصداء ما بعد العرض، يقول: «وصلت إلينا رسائل واتصالات من أشخاص لهم صلة مباشرة وغير مباشرة بالقصة، وكانت ردود الفعل مؤثرة جداً، بعضها أكد لنا أننا نجحنا في نقل إحساس الحكاية دون تشويه أو ابتذال، وهذا بالنسبة لي أعظم تقدير يمكن أن أحصل عليه كمخرج».
في المشهد السينمائي السعودي الذي يشهد نمواً متسارعاً، يرى الخريجي أن «سوار» ليس استثناءً، بل امتداد لخط بدأ يتشكل، قائلاً: «أترك الحكم للجمهور، لكني أعتقد أن (سوار) مكمِّل لمجموعة من الأفلام التي أسهمت في خلق هوية وأسلوب مختلف وجميل للسينما السعودية… هو جزء من مسار يحاول الموازنة بين الترفيه والعمق، وتقديم قصص سعودية بروح صادقة وإنتاج متقن».
أما عن مشاريعه القادمة، فيكشف المخرج أسامة الخريجي عن أكثر من مشروع قيد التطوير لديه حالياً، منها أفلام مستوحاة من قصص سعودية أصيلة، وأخرى ذات طابع عالمي لكن من منظور سعودي، ويختتم حديثه بالقول: «هدفي أن أواصل تمكين القصة السعودية وتقديمها بمعايير إنتاجية تنافس على المستوى الدولي».