في أزقة جدة التاريخية «البلد»، حيث تتعانق نوافذ الرواشين مع وهج الشمس الحجازية، وحيث تفوح من الجدران رائحة الخشب المحفور بعناية الأجيال، تتوقف خطوات السياح عند مشهد غير عادي: مشاغل حرفية تنبض بالحياة، وأيادٍ شابة تعيد بعث التراث من رماد النسيان. لا تمر هذه الورش على الزائرين مرور الكرام، بل تُدهشهم ببساطتها وجمالها ودقة صناعاتها. ففي كل قطعة من الفخار، أو نقش على الخشب، أو تطريز على القماش، حكاية تنبض بروح المكان.
في حديث له مع «الشرق الأوسط»، يقول مدير زاوية 97 عبد الرحمن العسيري: «لقد تحولت الحرف اليدوية في جدة التاريخية من مجرد مهنة كانت وسيلة للعيش إلى لغة إبداعية تعبّر عن الهوية الثقافية وتختزل التاريخ في تفاصيل ملموسة». وفي قلب هذه النهضة، تبرز «زاوية 97» نموذجاً فريداً يعيد صياغة الموروث بأسلوب معاصر. يضيف العسيري: «هنا، لا تُعرض القطع كمنتجات للبيع فحسب، بل كأعمال فنية لها سردها الخاص، تُجسد العلاقة بين الماضي والحاضر، وتشكّل مورداً اقتصادياً حياً ضمن المشهد السياحي المتجدد للمدينة».
ورشة تدريبية عن كيفية صناعة السبح (زاوية 97)
السياح القادمون من مختلف أنحاء العالم لا يخفون إعجابهم بهذه المساحات. فالبعض منهم يوثق التجربة بالكاميرات، والبعض الآخر يشتري منتجات يدوية كتذكارات أصيلة، فيما يطلب الكثيرون من الحرفيين شرحاً مفصلاً عن تقنيات الصناعة التي تعكس دهشة وفضولاً ثقافياً حقيقياً. هذا التفاعل لا يصب فقط في خدمة السياحة، بل يفتح آفاقاً جديدة أمام الحرفيين المحليين الذين وجدوا أخيراً منصة حقيقية لعرض فنونهم وتطويرها.
تصفح أيضًا: شركة تحليل بيانات: أرقام قياسية لـ«الهلال» بفضل تألقه مونديالياً
«زاوية 97» تتجاوز فكرة المتجر، فهي منصة مجتمعية إبداعية تُقيم ورشاً موسمية وبرامج تعليمية تستهدف الأطفال واليافعين، ما يخلق سلسلة استمرارية حية بين الأجيال. كما أن المساحة تتيح استئجار الورش للفنانين والحرفيين، مما يتيح بيئة تشاركية غنية بالحوار الفني والتقني بين مختلف المدارس والممارسات. هذه الممارسات لا تقتصر على النطاق المحلي، بل باتت تشكل جزءاً من التجربة الثقافية التي تسوّقها جدة التاريخية كوجهة عالمية للتراث الحي.
تجربة لحرفة صناعة منسوجات بخيوط الصوف (زاوية 97)
وبحسب العسيري، «تتضافر جهود متعددة لرعاية هذا المسار، في مقدمتها برنامج (جدة التاريخية) التابع لوزارة الثقافة، الذي أطلق مبادرات لإنعاش الحرف وتنظيم الأسواق ودعم الورش التثقيفية. كما أسهم إعلان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن مشروع ترميم جدة التاريخية في فتح نوافذ اقتصادية جديدة، حيث تزايد الطلب على الصناعات اليدوية المرتبطة بالمباني التاريخية، ما منح الحرفيين دوراً حقيقياً في صياغة هوية المكان». هذا المشهد الإيجابي لا يخلو من التحديات. فندرة الحرفيين المهرة وارتفاع تكاليف الإنتاج وضعف أدوات التسويق لا تزال عقبات حاضرة. إلا أن الإيمان المشترك بين أصحاب الورش والمبادرات الثقافية هو أن الحل يكمن في التمكين الحقيقي، والتكامل بين المجتمع، والقطاع الثقافي، والدولة.
يشار إلى أن الحرف اليدوية في جدة ليست مجرد مهارات موروثة، بل هي شيفرة اجتماعية، تخلق تماسكاً وتعزز الفخر المحلي. وبينما يلتقط السائح صورة أمام متجر تراثي أو يشتري قطعة مشغولة يدوياً، فإنه يشارك دون أن يدري في حكاية مدينة تعيد صياغة ذاتها لا كمتحف ساكن، بل ككيان حيّ يُراهن على الإبداع ليحفظ التاريخ وينسج المستقبل.