في مواجهة تصاعد الضغوط الانكماشية، يبدو أن الصين تتجه نحو إطلاق حملة جديدة لضبط الطاقة الإنتاجية الصناعية، لكن المحللين يحذرون من أن خفض الإنتاج وحده لن يكون كافياً هذه المرة لتكرار نجاحات إصلاحات العقد الماضي.
وأطلقت القيادة الصينية، مؤخراً، إشارات صارمة ضد حروب الأسعار بين المنتجين، واصفة إياها بأنها «منافسة تضر بالاقتصاد». وتتزامن هذه التصريحات مع تزايد التوقعات بإقدام الحكومة على تقليص الطاقة الإنتاجية، لا سيما في قطاعات السيارات والبطاريات والطاقة الشمسية التي كانت حتى وقت قريب تُعدّ محركات «النمو الجديد».
وتعهّد قادة الحزب الشيوعي هذا الشهر بتشديد الرقابة على التخفيضات الحادة في الأسعار؛ حيث أطلقت وسائل الإعلام الحكومية أشد تحذيراتها حتى الآن ضد ما وصفته بأنه شكل من أشكال المنافسة الصناعية التي تُلحق الضرر بالاقتصاد.
وتأتي هذه الخطوة في سياق يشبه جزئياً إصلاحات 2015 التي أسفرت عن تقليص كبير في إنتاج الصلب والأسمنت والفحم، مما أنهى 54 شهراً من تراجع أسعار المنتجين. لكن التحديات هذه المرة تبدو أكثر تعقيداً، حسب وكالة «رويترز».
أكوام من الفحم في مدينة نانجينغ الصينية (أ.ف.ب)
خلافاً للعقد الماضي، تعتمد الصين الآن على قاعدة صناعية يغلب عليها القطاع الخاص، مما يجعل خفض الإنتاج أقل قابلية للتوجيه المركزي. كما أن الحوافز الاقتصادية غير المتسقة بين الحكومات المحلية والمركزية تُربك الجهود الإصلاحية. وعلى الرغم من أن تخفيض الطاقة الإنتاجية قد يساعد على استقرار الأسعار، فإنه يحمل في طياته مخاطر كبيرة على سوق العمل، في وقت بلغت فيه بطالة الشباب نحو 14.5 في المائة.
وقال أستاذ الاقتصاد في جامعة موناش بملبورن، هي لينغ شي: «هذه الجولة من إصلاحات جانب العرض أصعب بكثير من تلك التي جرت عام 2015… احتمال الفشل كبير جداً، وإذا فشل فسيعني ذلك انخفاض معدل النمو الاقتصادي الإجمالي للصين».
ويحذّر اقتصاديون من أن أي تحرك لتقليص الإنتاج سيكون تدريجياً؛ إذ يسعى صناع القرار إلى الحفاظ على هدف نمو اقتصادي يقارب 5 في المائة. لكن هذا التوازن بين خفض الإنتاج والحفاظ على الوظائف يبدو صعباً، لا سيما أن قطاع التصنيع أصبح أقل كثافة عمالية، والقطاعات الأخرى غير قادرة على امتصاص الصدمة.
مصنع للحديد والصلب في مدينة تانغشان الصينية (رويترز)
قد يهمك أيضًا: بعد غرق حفار نفط بالبحر الأحمر… قناة السويس تؤكد انتظام حركة الملاحة
ويشير محللون إلى أن معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية في معظم الصناعات تقل عن المستوى «الطبيعي» البالغ 80 في المائة، مما يعكس ضعفاً في الطلب المحلي واعتماداً مفرطاً على نموذج نمو يُفضّل المنتجين على المستهلكين. ويزداد الموقف تعقيداً مع اشتداد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة التي تتهم الصين بإغراق الأسواق العالمية بمنتجات رخيصة تهدد صناعاتها المحلية.
وفي هذا السياق، تُشكل الحوافز المحلية عائقاً إضافياً، حيث تحفّز الحكومات الإقليمية الشركات على التوسع لاستقطاب الاستثمارات والوظائف؛ حتى لو أدى ذلك إلى تضخم مفرط في بعض القطاعات مثل الطاقة النظيفة.
ويرى خبراء اقتصاديون أن خفض الطاقة الإنتاجية وحده لن ينهي الانكماش، مؤكدين أن تحفيز الطلب الاستهلاكي هو السبيل الأنجح لتحقيق انتعاش حقيقي. لكن مع تراجع الزخم في قطاع العقارات الذي لعب دوراً رئيسياً في استيعاب الصدمات خلال إصلاحات العقد الماضي، لا يبدو أن هناك قطاعاً قادراً على التعويض بالفاعلية ذاتها.
وقد يُصدر اجتماع متوقع للمكتب السياسي، وهو هيئة صنع القرار في الحزب، في نهاية يوليو (تموز)، المزيد من الإرشادات الصناعية، على الرغم من أن هذا الاجتماع نادراً ما يُقدم خريطة طريق تنفيذية مفصّلة.
ويتوقع المحللون أن تستهدف بكين أولاً الصناعات الفاخرة التي وصفتها سابقاً بأنها «المحركات الثلاثة الجديدة» للنمو، التي تُخصّصها وسائل الإعلام الحكومية الآن لخوض حروب الأسعار: السيارات والبطاريات والألواح الشمسية.
وتسارع توسع هذه الصناعات في عشرينات القرن الحادي والعشرين مع إعادة توجيه الصين الموارد من قطاع العقارات المتضرر من الأزمة إلى الصناعات التحويلية المتقدمة لدفع ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى أعلى سلسلة القيمة.
لكن المجمع الصناعي الصيني الذي يُمثّل ثلث الصناعات التحويلية العالمية، يبدو مُتضخماً بشكل عام. قال محللون في بنك سوسيتيه جنرال إن معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية في معظم القطاعات أقل من 80 في المائة من المستوى «الصحّي»، مرجعين ذلك إلى ضعف الطلب المحلي ونموذج النمو القائم على الاستثمار الذي يُفضّل المنتجين على المستهلكين.
وقد اشتكى مسؤولون أميركيون وأوروبيون، مراراً وتكراراً، من أن هذا النموذج يُغرق الأسواق العالمية بسلع رخيصة مُصنّعة في الصين ويُعرّض صناعاتهم المحلية للخطر.
ويشير المراقبون إلى أن بكين تواجه مأزقاً حساساً، فالإفراط في الإنتاج يؤدي إلى انكماش طويل الأمد، في حين تقليص الإنتاج دون دعم الطلب يؤدي إلى خسارة الوظائف وتباطؤ النمو. والمطلوب هو نهج مزدوج يجمع بين سياسات عقلانية لخفض الطاقة الإنتاجية وتحفيز حقيقي للطلب الداخلي، لضمان استقرار الاقتصاد الصيني في وجه التحديات العالمية والمحلية المتزايدة.