السبت, يوليو 19, 2025
spot_img
الرئيسيةالوطن العربيالسعوديةالطبيب يظل مرآة الإنسان: من تعاويذ القدماء وحتى لمسات الذكاء الاصطناعي

الطبيب يظل مرآة الإنسان: من تعاويذ القدماء وحتى لمسات الذكاء الاصطناعي

الطبيب يتبدّل شكله، لكنه لا يفقد قلبه… على مر العصور.

في زمنٍ كانت فيه الأرض تُدوِّن حكاياتها على رقيمٍ من طين، وقف أول طبيب سومري يُمسك بقطعة من القصب، لا ليكتب دواءً فحسب؛ بل ليُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والألم.

آثار لنصوص طبية يعود تاريخها إلى الإمبراطورية الآشورية

كانت الوصفة الأولى مزيجاً من أعشاب وصلوات، لا فرق فيها بين الطب والدين، وبين العلاج والتنجيم. والمرض لم يكن خللاً فسيولوجياً؛ بل رسالة غامضة من عالم الآلهة، والطبيب كاهن يُترجم تلك الرسالة.

في سومر، لم يكن الطبيب مجرد شخص يحمل جرّة دواء؛ بل كان واسطة روحية بين المريض والسماء. لا يأتيه المريض بشكوى من صداع أو حمى؛ بل بقصة متشابكة عن غضب إلهي أو عينٍ حاسدة أو لعنة أصابت البيت. أما العلاج فكان يشبه المسرح: أعشاب تُنثر، وبخور يُحرق، وتراتيل تُتلى على ضوء الفجر، وربما ذبيحة صغيرة تُقدَّم للآلهة.

حتى شريعة حمورابي، أول قانون مدوّن في التاريخ، تعاملت مع مهنة الطب بقدسية وخطورة في آنٍ معاً: فإن شفى الطبيب المريض، فله أجرٌ وافر، وإن أخطأ، فله عقاب قد يصل إلى قطع اليد. هكذا كان الجسد معبداً، والطبيب هو الكاهن الذي لا يُسمح له بالخطأ.

مرّت القرون، وتحوّلت وصفة الطبيب من رقيم طيني إلى شاشة رقمية، ومن تعويذة إلى خوارزمية. لم تعُد الوصفة تبدأ بـ«ليمنحك الإله نينورتا الشفاء»؛ بل بـ«حسب نتائج تحاليلك المخبرية والتصوير بالرنين». لكن، هل تغيّر جوهر الطبيب؟ وهل غابت قدسيته؟

اليوم، الطبيب يقف وسط عاصفة من التكنولوجيا: ذكاء اصطناعي يشخّص، وتطبيقات تتابع النبض، وساعات ذكية تعرف ضغطك قبل أن تشعر به. ومع ذلك، ما زالت عين المريض تبحث عن عين الطبيب، ويده تبحث عن لمسة إنسانية تتجاوز كل الخوارزميات.

الطبيب اليوم لا يقرأ الطالع؛ بل يقرأ صور الرنين المغناطيسي. لا يطلب من المريض أن يتطهّر قبل العلاج؛ بل يطلب منه أن يصوم قبل التحليل. لكنه، رغم كل هذا التقدّم، يظل نفس الرجل أو المرأة اللذين وُلدا في معبد سومري منذ آلاف السنين، واقفين بين الحياة والموت، وبين الأمل والخوف.

ربما الفرق الوحيد أن الأدوات تغيّرت… لكن الرسالة لم تتغير.

في ظلّ كل هذا التقدّم، ما زال السؤال القديم يطاردنا: هل يُمكن للطبيب أن يهزم الموت؟ وهل يستطيع العلم أن يشرح كل شيء؟

هذا السؤال ردّده أبو العلاء المعري قبل ألف عام، حين قال:

يموت راقيك إن مرضت، وكم ذا

يموت من لا يُعالَجُ المرضُ

(ديوان سقط الزند)

وفي موضع آخر، عبّر عن خيبة الأمل في قدرة الطبيب حين قال:

يداوِي الناسَ وهو عليلُ (اللزوميات). أبو العلاء لم يكن ضدّ الطب؛ بل كان واعياً بمحدوديته أمام مصير الإنسان، وشاعراً بالبون الشاسع بين أمل الشفاء وقدر الموت. كانت أبياته صرخة من أعماق الفلسفة: أن الطبيب مهما امتلك من أدوات، يظل إنساناً، يخضع لنفس الألم، ونفس النهاية.

مع تعاقب الأزمنة، خرج الطبيب من عباءة الكهانة ليصبح حكيماً يرى ما وراء الجسد. جبران خليل جبران، في كتابه «النبي»، رسم صورة شاعرية للطبيب، قائلاً: «الطبيب الحكيم لا يصب دواءه في أجسادكم؛ بل يسكب من روحه في أرواحكم».

في عالم جبران، الطبيب ليس موظفاً صحّياً يوزّع الأدوية»؛ بل راوٍ يصغي إلى وجع الروح، ويزرع بذور الطمأنينة في أرض الخوف. إنه من يفهم أن الشفاء لا يعني فقط غياب الألم؛ بل عودة الإنسان إلى توازنه، إلى ذاته. الطبيب الحقيقي، في فلسفة جبران، يُعالج بالكلمة كما بالدواء، وبالحضور كما بالعلم.

قد يهمك أيضًا: مباحثات سعودية – روسية في موسكو تناقش تطورات المنطقة

في حارات نجيب محفوظ، يغادر الطبيب برج المثالية ليعود إنساناً بين الناس. لم يعُد كاهناً يتلو تعاويذ، ولا حكيماً يتأمل من بعيد؛ بل هو شخص يتشارك الحياة اليومية، ويواجه معاناة الواقع.

في رواية «السراب»، نرى طبيباً يقف أمام مريضه متردداً؛ لا لأن الحالة معقدة، بل لأن المريض بحاجة إلى كلمة طيبة أكثر من وصفة دواء.

وفي «أولاد حارتنا»، يحاول الطبيب أن يفهم أكثر مما يشخّص، يصارع ضغوط الناس وحدود معرفته، ويحلم بأن يكون بطلاً في حارة لا تبحث عن المعجزات؛ بل عن رجل يسمعهم بصدق.

في زقاق شعبي بالقاهرة، نجد الطبيب كما صوّره محفوظ ببساطة وإنسانية: الدكتور سمير، رجل خمسيني، يجلس في عيادته المتواضعة بجوار سوق الخضار.

تزوره يومياً الحاجة أم خالد، امرأة في السبعين، تشكو من ألم في صدرها. الأشعة لا تكشف شيئاً، لكن الدكتور سمير يعرف – بحسّه، لا بسماعة – أن الألم ليس في القلب؛ بل في الوحدة.

يكتب لها دواءً بسيطاً، ويبتسم قائلاً: «اشربي اليانسون مع جارتك، وتعالي بكرة احكي لي إزاي قضيتِ يومك».

تغادر وهي تبتسم. كأن اليانسون هو الشفاء، أو ربما كانت كلماته هي الدواء.

اليوم، يقف الطبيب على مفترق طرق حاسم. في مستشفيات الرياض ونيوم، تشخص خوارزميات الذكاء الاصطناعي سرطان الرئة بدقة تفوق أمهر الأطباء. وفي جدة، ترصد أجهزة ذكية مستوى السكري وتعدّل الجرعات دون تدخل بشري. كل شيء أصبح أسرع، وأدق، وأكثر كفاءة.

لكن وسط هذا الانبهار بالتقنية، ينبعث صوت خافت من سرير المرضى: «أريد من يسمعني… لا من يقرأني فقط».

الذكاء الاصطناعي قد يُنقذ حياة، لكنه لا يُمسك بيد مريض يرتجف من خبر سيئ. لا يعرف أن قلب أم خالد لا يحتاج إلى أدوية بقدر ما يحتاج إلى دفء إنساني.

في سومر، كانت تعويذة تُهمَس في أذن المريض كي يطمئن. واليوم، قد تكون الشاشة هي التعويذة الجديدة، لكن؛ من يكتب السطر الأخير؟ الطبيب أم الخوارزمية؟

في هذا العصر الهجين، حيث يمتزج السيليكون بالقلب البشري، يبقى سؤال الشفاء مفتوحاً: هل هو معادلة كيميائية… أم لمسة صادقة؟

قال الشاعر:

وليس يُعدّ الطبيبُ حكيماً… إذا لم يُداوِ جراحَ النفوسِ.

وهنا، يتلاقى صوت أبو العلاء مع صوت مريض في غرفة طوارئ اليوم، أو أم خالد في زقاق محفوظ: كلهم يسألون الطبيب شيئاً واحداً… أن يكون إنساناً قبل أن يكون خبيراً.

من معابد سومر الطينية، إلى زقاق صغير في القاهرة، إلى غرف العمليات في مدن المستقبل، ظل الطبيب مرآة للزمن، وشاهداً على تبدّل الإنسان وأدواته.

كان يوماً كاهناً، ثم حكيماً، ثم صار شريكاً للآلة. ومع ذلك، لم يفقد جوهره: الإصغاء، والرحمة، وكلمة «أنا هنا من أجلك».

فهل تتذكر طبيباً غيّر حياتك؟ هل كانت وصفته دواءً… أم كلمة؟

شاركنا قصتك معنا، فلكلٍ منا طبيب يسكن الذاكرة… ويُشبهنا.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات