تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية ناشئة إلى أداة حاسمة تعيد تشكيل القطاعات كافة، من الصحة والتعليم إلى البيئة والعمل. ومع هذا التحول المتسارع، يبرز سؤال أساسي: كيف يمكن استثمار هذه التكنولوجيا في القضايا الإنسانية والمجتمعية، بحيث تكون أداة للتمكين لا مجرد وعود نظرية؟
هذا السؤال كان محور حديث خاص أجرته «الشرق الأوسط» مع الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود، الأمين العام لمؤسسة الوليد للإنسانية، التي أوضحت أن الذكاء الاصطناعي قادر على إحداث نقلة نوعية في طريقة تعامل المؤسسات الخيرية مع التحديات المعقدة، من المناخ إلى العدالة الاجتماعية. وأكدت الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود أن «الذكاء الاصطناعي أداة قوية لمعالجة بعض من أكثر تحديات العالم إلحاحاً. من خلال تحسين الفهم، وتعزيز تحليل البيانات، والتنبؤ بالتأثيرات، يمكن لهذه التكنولوجيا أن تغيّر بشكل جذري طريقة تعاملنا مع هذه القضايا».
الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود الأمين العام لمؤسسة الوليد للإنسانية متحدثة إلى «الشرق الأوسط» (مؤسسة الوليد للإنسانية)
أحد الأمثلة البارزة هو منصة «Atlai 2.0» التي طورتها مؤسسة الوليد للإنسانية في المملكة العربية السعودية. المنصة، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تجمع بيانات آنية حول المناخ والبيئة لتوفير رؤية شاملة عن الأوضاع العالمية. ووفق الأميرة لمياء، فإن هذه القدرات تتيح الانتقال من نموذج العمل التقليدي، القائم على ردّ الفعل، إلى نهج استباقي يساعد المجتمعات على الاستعداد للأزمات البيئية قبل وقوعها.
وتضيف: «قد نرى مستقبلاً استخدام نماذج تنبؤية للتنبؤ بالكوارث المناخية قبل وقوعها، ما يسمح لنا بالانتقال من نموذج تقليدي يعتمد على الاستجابة، إلى دعم المجتمعات للاستعداد لمثل هذه الحوادث».
تؤكد الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود أن اعتماد أي تقنية جديدة لا بد أن يتم وفق إطار أخلاقي واجتماعي متين. تقول: «قبل أن نبدأ رحلتنا مع الذكاء الاصطناعي، سألنا أنفسنا كيف يمكن للابتكار أن يخدم مهمتنا الإنسانية. نحن ننظر إلى الابتكار بوصفه أداة تمكين، لكن يجب أن يكون شاملاً ومتاحاً للجميع».
وهنا يأتي دور الشراكات المحلية والدولية التي تساعد المؤسسة على ضمان أن تكون التكنولوجيا المستخدمة مسؤولة وفعّالة، وأن يتم تنفيذها بما يحقق الكفاءة والأثر.
جانب آخر محوري هو تمكين المرأة. فمؤسسة الوليد للإنسانية، وفق الأميرة لمياء، تحرص على إشراك النساء منذ المراحل الأولى في تطوير أي مشروع تقني، وهو ما يعكس التحول الكبير الذي تشهده المملكة في مجال دمج النساء في قطاع الذكاء الاصطناعي. وتوضح خلال حديثها مع «الشرق الأوسط» أن «المملكة تشهد صعوداً ملحوظاً للنساء في طليعة مجال الذكاء الاصطناعي بفضل سنوات من الاستثمار في التدريب والإرشاد والفرص القيادية».
وتبرز مبادرة «واعية» بوصفها أحد الأمثلة الملموسة، إذ ساعدت في تدريب أكثر من 4.300 مستفيدة من بينهم محاميات سعوديات على التعامل مع قضايا حماية البيانات والتقاضي. كما ساعدت المبادرة في دعم ما يقارب 150 قضية قانونية، وقدمت استشارات مباشرة، بالإضافة إلى تنظيم عيادات قانونية في الجامعات وبرامج توعية في القرى النائية.
تمكين المرأة عنصر أساسي في نهج المؤسسة حيث ساعدت مبادرة «واعية» آلاف المستفيدات في مجالات حماية البيانات والدعم القانوني (شاترستوك)
تصفح أيضًا: ارتفاع أسعار الخام يهبط بأرباح «المتحدة للكرتون» 71 % في الربع الثاني
من أبرز التحديات التي أشارت إليها الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود عند التعامل مع قضايا المناخ، هو غياب البيانات المتاحة والسهلة الوصول. وهنا يأتي دور منصة «Atlai» التي توصف بأنها أول منصة عامة لرصد إزالة الغابات بالذكاء الاصطناعي، إذ توفر بيانات آنية عبر صور الأقمار الاصطناعية وخوارزميات معالجة اللغة. وتعد الأميرة لمياء أنه «من دون بيانات متاحة، لا يمكننا اتخاذ إجراءات فعّالة وأن (Atlai) صُممت لإتاحة الوصول إلى معلومات بيئية دقيقة، ما يتيح للمجتمع العالمي المشاركة في تسريع الانتقال المناخي».
تقوم منصة «Atlai 2.0» بدمج نماذج لغوية ضخمة (LLMs) قادرة على معالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات، ما يتيح تتبع درجات الحرارة وجودة الهواء والتصحر وإزالة الغابات بدقة عالية. وحتى الآن، أنتجت المنصة أكثر من 20.000 تقرير تنبيه، إضافة إلى 535.000 إنذار بالحرائق و1.000 إنذار بإزالة الغابات. وتتميز المنصة بتوليد تقارير آلية فور وقوع تغيّرات مناخية كبرى، إلى جانب إمكانية إعداد تقارير مخصصة تُكيَّف وفقاً للمناطق أو وفق احتياجات المستخدم.
ترى الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود، الأمين العام لمؤسسة الوليد للإنسانية، أن المملكة أصبحت لاعباً محورياً في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي. الأرقام تدعم ذلك حيث تحتل السعودية المركز الثالث عالمياً في معدل نمو الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لعام 2024. كما تتبوأ المركز الرابع عالمياً في عدد النماذج المتقدمة المطورة في هذا المجال. وفق تقرير نُشر في أبريل (نسيان) 2025، تصنّف السعودية ضمن سبع دول فقط قامت بنشر نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، إلى جانب الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، كندا، كوريا الجنوبية.
وأطلقت المملكة هذا الشهر أيضاً من خلال شركة «هيوماين» نموذج «علّام»، وهو نموذج أساسي للذكاء الاصطناعي جرى تطويره وتدريبه بالكامل في المملكة، لا يتحدث العربية فقط بل يفهمها بكل عمقها وتنوعها.
وتضيف الأميرة لمياء أن «المبادرات الطموحة مثل مبادرة السعودية الخضراء تظهر كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، عبر بيانات التربة والمياه والمناخ، لزراعة مليارات الأشجار في المواقع المثلى».
من خلال منصة «واعية» التي تقدم استشارات قانونية فورية عبر واجهة سهلة الاستخدام، وضعت مؤسسة الوليد للإنسانية خصوصية المستخدم في صلب التصميم. يتم ضمان الحماية عبر تقنيات مثل التحقق الثنائي والتشفير، إضافة إلى اشتراط أن يكون جميع المستشارين القانونيين منتمين لمكاتب محاماة معتمدة.
وتنظر الأميرة لمياء إلى المستقبل بواقعية، مؤكدة أن التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي لا بد أن يترافق مع مرونة ورقابة أخلاقية.
وتصرح: «المرحلة المقبلة من عملنا مع الذكاء الاصطناعي تكمن في تعميق الأثر مع توسيع الوصول. نريد أن نكون قادرين على مساعدة المجتمعات على التكيف مع التحولات، بما في ذلك الوظائف التي قد تختفي نتيجة لهذه التكنولوجيا».
كما تؤكد أن قياس النجاح لا يقتصر على تتبع الإنتاجية أو عدد التقارير الصادرة، بل يشمل النتائج الواقعية من حيث تحسين حياة الفئات المهمشة وتقليص الفجوات، وتعزيز رفاه المجتمعات.
تكشف رؤية الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود بوضوح عن أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد شعار أو كلمة رنانة في القطاع الخيري، بل أداة حقيقية يمكن أن تعيد تعريف العمل الإنساني إذا ما استُخدمت بوعي وقيم، وأن العمل الخيري المدعوم بالذكاء الاصطناعي يمثل نموذجاً جديداً يتجاوز الوعود إلى التنفيذ، ويمنح الجميع فرصة متساوية ليكونوا جزءاً من الحل.