يُحدث الذكاء الاصطناعي بالفعل تحولاً في طريقة عملنا، مُطلِقاً العنان لمكاسب إنتاجية كانت بعيدة المنال. ولكن في خضم هذا التسارع السريع، يتزايد الخطر: إذ إننا سنُصمم العمال بما تُجيد الآلات تصميمه، ونغفل عن كيفية نمو البشر وتكيفهم، وفي نهاية المطاف، تحفيزهم للابتكار، كما كتب د. كريس إرنست (*).
أجريتُ أخيراً محادثات مع زملائي في مجتمع التعلم والتطوير حول هذا الموضوع. نحن الآن في لحظة محورية؛ إذ ستُحدد الخيارات التي نتخذها الآن ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى قوة عاملة أكثر تمكيناً ومرونة، أو قوة يُتيح فيها هذا الذكاء للموظفين تحفيز الخوارزميات مقابل إضعاف المهارات البشرية ذاتها لديهم التي تُمكّنهم من الإبداع والتعاون والتفكير النقدي.
الخبر السار هو أنه ليس بالضرورة أن يكون الأمر مُقايضة. لدينا فرصة نادرة لإعادة تصميم العمل كشراكة حقيقية بين الناس والتكنولوجيا. الذكاء الاصطناعي يُعزز الإنتاجية. ولكن ماذا لو ساهم أيضاً في تعزيز القدرات البشرية أثناء عملنا؟ تخيّل محللاً مالياً لا يستخدم الذكاء الاصطناعي لإعداد تقرير، فحسب، بل ولفهم «السبب» وراء الأرقام. أو مسوّقاً مبتدئاً للبضائع والخدمات يتعلم في بيئة محاكاة، حيث يُقدّم الذكاء الاصطناعي ملاحظات واقتراحات آنية. هذه ليست افتراضات مستقبلية، بل خيارات تصميمية يُمكننا اتخاذها اليوم.
عند تطبيقه بعناية، يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُصبح مدرباً، وليس مجرد أداة أتمتة، يُساعد الناس على بناء مهاراتهم من خلال عملهم اليومي. هناك مقولة قديمة تقول: «التجربة خير مُعلّم». أعرف صحة هذا القول لأنني عشته بنفسي. خلال أول 15 عاماً من عملي في قسم التعلم والتطوير، حظيتُ بفرصة العمل مع خبراء حقيقيين في مجالنا، ليس فقط من خلال التعلم من الكتب والنظريات، بل من خلال التدريب العملي.
منذ بداياتي المهنية، أصبح نموذج التعلم 70 – 20 – 10 إطاراً معترفاً به على نطاق واسع في مجال التعلم والتطوير: 70 في المائة من التعلم يحدث من خلال الخبرة، و20 في المائة من خلال العلاقات، و10 في المائة من خلال التدريب أو الدراسة المنظمة.
ماذا يحدث إذن عندما يُنتج الذكاء الاصطناعي الحل الأمثل بسهولة وفي أقل من 30 ثانية، ما قد يُقلل أهمية تجارب التعلم الحيوية هذه؟ إن التعلم الحقيقي والنمو والتكيف ينبع من إنجاز العمل: كتابة كتاب. حل مشكلة معقدة. التعامل مع حالة من الصراع. في هذه اللحظات الصعبة والتحديات والكفاح، ينمو الناس ويتغيرون بعمق.
في عصر الذكاء الاصطناعي، سيكون التعلم قائماً على الطرح خارجاً – أي تحدي النماذج الذهنية الحالية، ومناقشة الافتراضات، والتخلي عن الأساليب الموجودة القديمة التي لم تعد تُجدي نفعاً – بقدر ما هو قائم على الإضافة – إضافة معارف جديدة.
نوصي بقراءة: ما أنواع الصداع النصفي وأعراضها؟
من خلال فرص الابتكار، مثل فعاليات الهاكاثون (حدث يجتمع فيه مبرمجو الكمبيوتر وغيرهم لتطوير البرمجيات)، أو توفير وقت فراغ للموظفين يتيح لهم حرية اختيار أفضل السبل لاستخدام مهاراتهم ومواهبهم، يُمكننا التركيز على عمل أكثر استراتيجية وتحفيز الأفكار المبتكرة.
تتبنى بعض الشركات «تولّي الموظفين وظائف مؤقتة» تُخرج الموظفين من منطقة راحتهم العملية لكي يساهموا في مهام خارج نطاق أدوارهم المعتادة. مثلاً: عضو في فريق التمويل ينضم إلى سباق تطوير منتج، أو مُسوّق يستكشف علم البيانات. وهذه الأنواع من التجارب العملية لا تتطلب مهارة فحسب؛ بل تُنتج مهارات، كما تبني الثقة والفضول لمواجهة تحديات أكبر.
البشر كائنات اجتماعية بطبيعتها؛ نتعلم وننمو ونبتكر مع الآخرين ومن خلالهم. ماذا يحدث إذن عندما تبدأ التكنولوجيا في فصلنا بعضنا عن بعض – مُدمرةً الروابط الحيوية التي تسمح للموظفين المبتدئين بالتعلم من كبار الموظفين، وللمبتدئين بالتدرب مع الخبراء – ما قد يؤدي إلى قوى عاملة معزولة ومُجزأة؟
الحل ليس في إبطاء وتيرة تبني التكنولوجيا، بل في مضاعفة التواصل. ذلك إن تهيئة بيئة غنية بالتواصل الاجتماعي تُنشئ الثقة، والهدف المشترك، والتفاعلات غير الرسمية التي تُلهم أفكاراً جديدة وتُعزز الثقافة.
في سياق هذا التواصل الإنساني، نرى القيمة الحقيقية لمهاراتنا البشرية الفريدة تتجلى. ويدعم ذلك بحث مؤسسة «ووركداي» Workday، الذي يُظهر أن 83 في المائة من الموظفين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيُعزز أهمية المهارات البشرية الفريدة. (Elevating Human Potential: The AI Skills Revolution).
لم تعد مهارات مثل الذكاء العاطفي والإبداع والتواصل «مجرد رفاهية»، بل أصبحت ضرورية.
المستقبل ملكٌ لأولئك الذين يُدركون قوة الذكاء الاصطناعي والبشر في العمل معاً. من خلال تصميم العمل عمداً كشراكة حقيقية بين الناس والتكنولوجيا، يُمكننا فتح آفاق مستقبل من الإنتاجية والابتكار والإنجاز غير المسبوق.
* رئيس قسم التعليم في مؤسسة «ووركداي» – مجلة «فاست كومباني» – خدمات «تريبيون ميديا»