لا يمكن للأمل أن يُشكّل استراتيجيّة فاعلة. فالاستراتيجيّة تتطلّب وقائع ملموسة، ووسائل ضغط قادرة على تغيير سلوك الآخر.
عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أرض كانت ملك الإمبراطورية الروسيّة، وتمنّى لو كان باستطاعته استردادها. استقبله نظيره الأميركي دونالد ترمب على الأرض الأميركيّة، الأمر الذي عكس وزن الولايات المتحدة مقابل روسيا. لكن استقبال بوتين على أرض أميركيّة بعد العزلة الدولية التي فرضها العم سام عليه بعد الحرب على أوكرانيا، يعد إنجازاً للرئيس بوتين. وبالنتيجة، تكلّم الرئيس ترمب بلطف، لكنه لم يحمل العصا الغليظة، تيمناً بنصيحة الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت، التي تقول: «تكلم بلطف، لكن احمل عصا غليظة».
لماذا يحق للرئيس ترمب السعي للسيطرة على غرينلاند، عبر شرائها، أو عبر استعمال القوّة العسكريّة؟ ولماذا يحق للرئيس ترمب أن يضم كندا، بعد فشل محاولة الثورة الأميركية بضم كيبيك بالقوة العسكريّة عام 1775؟ ولا يحق للرئيس بوتين استعادة أهم أضلع المثلث الروسي التاريخيّ، الذي يرتكز على كلٍّ من: روسيا الكبرى، وروسيا الصغرى والمقصود بها أوكرانيا، إضافةً إلى روسيا البيضاء (بيلاروسيا)؟ عندما يُحكى عن تبادلٍ (Swap) للأراضي مع أوكرانيا. فهل المقصود هو تبادل أراضٍ محتلة من أوكرانيا مع أوكرانيا وعلى حساب أوكرانيا؟ بالطبع هذا ما يقصده بوتين. فهو يعدّ نفسه قيصر روسيا للقرن الـ21. فكيف يتخلّى عن أرض ضمّها قياصرة قبله؟
قد يهمك أيضًا: الصين تحُثّ أوروبا على تجنّب «المواجهة»… وتؤكّد دورها في «موازنة» واشنطن
توجه بوتين إلى ألاسكا، وهو لغز سعى ترمب لفك عُقَده. ألم يقل ترمب إنه يريد معرفة ماذا يريد بوتين؟ جاء بوتين لمقابلة رئيس شفاف في أهدافه، يختصر في شخصه كل السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. فهو وحده وبتفرّد، يدير هذه السياسة علناً وعلى وسائل التواصل الاجتماعي يوميّاً، متجاوزاً بذلك كل البيروقراطية المعنية، ضمناً وزير الخارجيّة. في هذا اللقاء، كان هناك رئيس مستعجل، يرى أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال في مرحلة الأحاديّة، متجاهلاً أن أميركا أصبحت في مرتبة «الأولى بين متساوين». في المقابل، بوتين القادم من خلفية استخباراتيّة، كان قد عايش فيها الحرب الباردة، كمرحلة سقوط الاتحاد السوفياتي، واضعاً نصب عينيه استرداد موقع روسيا الكوني. ألم يقل بوتين إن سقوط الاتحاد السوفياتي هو أكبر كارثة جيوسياسيّة في القرن العشرين؟ يعرف بوتين ضمناً أن روسيا ليست لاعباً جيوسياسياً كونياً في وضعها الحالي. لكنه يعي تماماً أنه اللاعب «المُعطّل»، (Disruptor) وبامتياز.
توجه بوتين إلى ألاسكا وفي جعبته 25 سنة من الحكم المُستدام، ومع ثبات جيوسياسيّ-استراتيجي، ينقضّ على الفرص الاستراتيجية للاستفادة منها وتحسين وضع روسيا -سوريا مثلاً. عايش بوتين عدّة رؤساء أميركيين. قابل الرئيس بوش الابن 28 مرّة. وفي إحدى المرّات قال بوش عن بوتين: «نظرت في عينَي هذا الرجل ورأيت أنه رجل مستقيم ويستحق منَّا أن نصدقه… وكنت قادراً على الشعور بروحه. جلب هذا الرجل الأفضل لبلده».
كذلك، قابل أوباما 9 مرات، وقابل ترمب 6 مرّات. يقول السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين عن روسيا، إنها أخطر من تنظيم «داعش»، وإنها محطة وقود، لكن مع سلاح نوويّ. في المقابل، وصف الرئيس السابق أوباما الرئيس بوتين بأنه يشبه حاكم مقاطعة صارم في شيكاغو، لكن مع سلاح نووي وحق الفيتو في مجلس الأمن. كما صنّف أوباما روسيا على أنها قوّة إقليميّة. خرج ترمب من القمة بخفَّي حُنين، لتعود مجدداً الديناميكية العسكريّة إلى المسرح الأوكراني بالتحديد، والأوروبي بشكل عام. فكيف تستعدّ أوروبا عسكريّاً؟
مهما كانت نتيجة القمّة، ترى أوروبا نفسها المُستهدفة من الاستراتيجيّة الروسيّة، وذلك بسبب القرب الجغرافيّ، خصوصاً بعد عسكرة الاقتصاد الروسي بالكامل لصالح الحرب. وفي هذا الإطار، من الضروري أن تستعد أوروبا عسكرياً، إن كان من ضمن حلف الناتو، أو ضمن الاتحاد الأوروبيّ. وعليه، رصدت مجلّة «الفاينانشال تايمز» التحوّل في الصناعات العسكريّة الأوروبيّة، وكانت النتيجة على الشكل التالي: توسّعت مساحة معامل الصناعات العسكريّة لتصل إلى 7 ملايين كلم2، الأمر الذي يعني تجسّد القرار السياسيّ الأوروبيّ ضمن قانون دعم إنتاج الذخيرة (ASAP)، الذي خُصّص له مبلغ 500 مليار يورو، لمواجهة روسيا في أوكرانيا عملياً على أرض الواقع. يعكس هذا الأمر قرار التصنيع بكثرة (Mass)، وبسرعة، خاصة للصواريخ وقذائف المدفعيّة، خصوصاً الـ155 ملم، كما لقذائف الدبابات من عيار 120 ملم. في تقارير أخرى، رأت أوروبا أن خط الاحتواء (Containment) الذي كان قائماً خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، قد انتقل شرقاً حتى الحدود المشتركة بين أوروبا الشرقية وروسيا. يبدأ هذا الخط من إستونيا حتى اليونان، مروراً بكلٍّ من لاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، وهنغاريا، ورومانيا المُطلّة على البحر الأسود، وبلغاريا. وعليه، بدأ التحضير للسيناريو السيّئ مع روسيا، خصوصاً بعد أن بيّنت المناورات العسكريّة الأخيرة لحلف الناتو عدم جهوزيّة البنى التحتيّة لأغلب الدول؛ من جسور وطرقات لتأمين الحركيّة والمناورة (Mobility) خصوصاً للآليات الثقيلة، كالدبابات مثلاً. هذا بالطبع مع عدم إغفال موضوع اللوجيستيّة، وأهميّة القتال المشترك بين هذه الدول (Interoperability).