الإثنين, يوليو 28, 2025
الرئيسيةالوطن العربيالسعودية«جبال السروات» سجل تاريخي وثقافي حيّ

«جبال السروات» سجل تاريخي وثقافي حيّ

تمتد السلسلة الجبلية بمحاذاة الساحل الشرقي للبحر الأحمر وكانت مسرحاً لنهضة العديد من المجتمعات التاريخية التي أبقت لها أثراً شاهداً على حياتها بين القمم والصخور.

من الغابات، إلى القمم المطيرة، مروراً بالقرى التراثية العتيقة، والمزارع السخيّة، وقصور الحضارات الشاهقة، والنقوش التاريخية، تتشكل حكايات سلسلة جبال السروات، التي تمثل سجلاً تاريخياً وثقافياً حيّاً، ومتحفاً شاهداً على حكاية تكيّف الإنسان مع الظروف والبيئة والتحديات.

وتمتدّ السلسلة الجبلية بمحاذاة الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وتشمل جبال فيفاء، وعسير، والطائف، والحجاز، في الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية، وتكوّن بامتدادها الطولي الذي يبلغ 1550 كيلومتراً تقريباً داخل السعودية، وعرضها الذي يتراوح بين بضعة كيلومترات و140 كيلومتراً، مسرحاً لنهضة كثير من المجتمعات التاريخية التي أبقت لها أثراً شاهداً على حياتها بين القمم والصخور.

السحب البيضاء تغلّف جبال السروات في هدا الطائف (واس)

يقول أحمد بن إبراهيم، الذي عمل لنحو عقدين في تتبع المظاهر الطبيعية والبيئية في القطاع الجنوبي من سلسلة جبال السروات، إنها بيئة حيوية سخيّة بالتفاصيل، لا تكاد تبلغ الوسع في الإلمام بجزء مما احتفظت به الجبال في سفحها وتهامتها، إلا ناولتك آفاقاً جديدة للمعرفة والاكتشاف، التي تعكس حكاية تكيُّف إنسان المكان مع بيئته وظروفه وتحدياته، مضيفاً: «ما نجده من أشكال البناء، وإبداع أشكال المزارع، والأدوات التقليدية التي طورها الإنسان مع الوقت لأداء وظائفه اليومية بكفاءة تشكّل لنا صورة شِبه مكتملة عن طبيعة هذا التكيُّف، وهي تعبير عن تطلعات وتوقعات الإنسان من نفسه وبيئته».

ويشير بن إبراهيم إلى القرى التراثية الحجرية والحصون، التي شُيّدت في الأودية، وفي سفوح الجبال، وعلى القمم. وقد زار أغلب تلك القرى في المرتفعات الجنوبية للسروات، ويقول إن الخصائص الجغرافية الفريدة والمناخ المميز، وفّرت بيئة آمنة ومزدهرة للاستقرار والزراعة ومحطات للتجارة المحصنة عبر التاريخ.

ويضيف: «المظاهر الطبيعية والثقافية التي نلمس آثارها اليوم، هي ثمرة تكامل وتفاعل بين العناصر الطبيعية والبشرية، التي وظّفت بعبقرية ووعي، كل الفرص التي توفرها التضاريس المحلية والموارد الطبيعية على أكمل وجه».

وعلى مرّ الأجيال، طوّرت المجتمعات البشرية، المدعومة ببرودة الطقس وغزارة الأمطار، نظاماً زراعياً رائعاً، سمح بتنمية البساتين والحدائق على قمم الجبال والوديان شديدة الانحدار، ووجّهت المياه، وبنت مخازن حبوب أبراجية وخلايا نحل ضخمة مبنية من الحجر، شكّلت المشهد الطبيعي وتركت آثاراً مهمة، لا سيما في قرى، مثل ذي عين بمنطقة الباحة، التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن العاشر الهجري، وقرية رجال ألمع، ويعود تاريخها إلى نحو 900 عام.

مقاري النحل الأثرية في قرى ميسان بني الحارث مصممة بطريقة هندسية متقنة (واس)

قد يهمك أيضًا: الهلال يقوي وسطه بالفرنسية خيرة حمراوي قادمة من سيدات الشباب

كما تزخر جبال السروات بكثير من النقوش والرسوم الصخرية التي تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، مما يجعلها منطقة ذات أهمية أثرية وتراثية كبيرة.

ومن أهم النقوش والرسوم التي رصدها الباحثون في جبال السروات، النقوش الثمودية والنبطية، والرسوم الصخرية القديمة، بما في ذلك نقوش لحيوانات، مثل الأبقار والثيران. وقد شوهدت النقوش والرموز والعلامات المحفورة على الجبال، بالإضافة إلى الكهوف ومسارات الأودية التي تنتشر في المنطقة.

وتضم المرتفعات الغربية والجنوبية وسهولها وتهامتها عدداً من الأودية التي هيَّأت لانتشار مجموعات من النباتات والغابات والأشجار المثمرة، التي تعتمد على مياه الأمطار التي تهطل عليها في مواسم عدة خلال العام، بينما تضمّ جبالها مخزوناً من المعادن والصخور الصلبة الثمينة، وتتزين بالتكوينات الطبوغرافية المتنوعة والظواهر الجغرافية الغنيّة، التي يعود تكوينها لمئات الملايين من السنين، ومثلت حالة من التميُّز والتفرُّد للتشكيل الجمالي والتنوع الحيوي النباتي والحيواني العالي من حيث الكثافة والندرة.

ويزيد عدد الأنواع النباتية المسجَّلة في بعض المناطق المحمية على امتداد السروات، على 500 نوع من الأشجار والشجيرات والحشائش والنباتات الحولية والمعمرة. من أهمها أشجار العرعر والعتم والإبراه واللثب والعدن الصومل والظهيان والتمر الهندي، بالإضافة إلى مجموعة من النباتات الطبية والعطرية، مثل شجر الشث والبرك والريحان والعثرب.

بأحجار السروات… مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد يُجدّد مسجداً عمره 13 قرناً في الباحة (واس)

عبر التاريخ، انعكس تنوُّع المناطق الجبلية والمناظر الطبيعية الثقافية الريفية لجبال السروات، في تقاليد معمارية غنية ومتعددة الأوجه، ووظَّف أبناء تلك المناطق بمهارة وكفاءة وذكاء مواد البناء المحلية (الخشب والحجر والطين) لبناء هوية عمرانية فريدة. وأدى المناخ المتميز بالصيف الحار، والشتاء البارد، والأمطار الموسمية، إلى تطور عِمَارَة تكيفت مع الطبيعة الجبلية وعكست توازناً اختاره الإنسان سبيلاً للتعايش والاستقرار.

حصون وقلاع شامخة شاهدة على أهمية ما قدمه الآباء والأجداد (واس)

وحسب «خريطة العمارة السعودية»، التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان، والتي تشمل 19 طرازاً معمارياً مستوحى من الخصائص الجغرافية والثقافية للمناطق السعودية، فإن العمارة في جبال السروات تتسم بالمباني التقليدية المتضامة وذات الهيكل الهندسي من الحجر بأنماطه المميزة، حيث يتم استخدام الأحجار المحلية بألوانها المتعددة التي تتفاوت بين الأسود والبني إلى درجات البني والرمادي والأبيض.

وتتميز النوافذ بصغر حجمها مقارنةً بمساحة الجدران الكلية، وتكون غالباً عبارة عن فتحات صغيرة ذات إطار حجري أبيض، تضفي إحساساً بالمتانة والخصوصية. وعلى الرغم من أن البناء التقليدي في المناطق الجبلية يتخذ دوره الوظيفي، أساساً، لتلبية احتياجات السكان المحليين والتعامل مع الظروف المحيطة، فإنه لم يخلُ من البُعد الفني في رص الأحجار واختيار الأشكال، الأمر الذي ترك تراثاً عمرانياً مزدهراً وشاهداً على ثقافة إنسان المكان.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات