للمرة الثالثة في أقل من شهر كرر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، انتقاده لما وصفه بـ«تمويل الولايات المتحدة» لـ«سد النهضة» الإثيوبي على نهر النيل، مؤكداً ضرره بمصر، وأن بلاده تسعى للحل، مما آثار تساؤلات حول غرض ترمب من ذلك، فيما قال مصدر مصري مسؤول لـ«الشرق الأوسط» إنه «حتى الآن لم تتوصل إدارة ترمب مع مصر بشأن أي مفاوضات بخصوص (السد)، رغم تصريحات الرئيس الأميركي المتكررة».
وقال ترمب، مساء الجمعة، في خطاب أمام أعضاء مجلس الشيوخ بواشنطن، في معرض رصده لما وصفه بجهود إدارته في حل الأزمات بالعالم: «لقد تم التعامل مع مصر وإثيوبيا، وكما تعلمون فقد كانتا تتقاتلان بسبب (السد)، إثيوبيا بنت (السد) بأموال الولايات المتحدة إلى حد كبير… إنه واحد من أكبر السدود في العالم»، مشيراً إلى أنه تابع بناء «السد» عبر صور الأقمار الاصطناعية، وأن إدارته تعاملت مع مسألة «السد» بشكل جيد، مشدداً على ضرره بمصر، وأنه «ما كان يجب أن يحدث ذلك، خصوصاً أنه ممول من الولايات المتحدة»، منوهاً إلى أن الأمر «سيحل على المدى الطويل».
تعليقاً على ذلك، قال عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، مصطفى بكري، لـ«الشرق الأوسط»: «تعودنا من ترمب إطلاق الكلام على عواهنه، والحديث الآن عن أن بلاده شاركت في تمويل بناء (السد الإثيوبي) هو إدانة للسياسة الأميركية بوقوفها مع رغبة إثيوبيا في منع المياه عن مصر»، وتدخل من قبل بدعوى الحل، وحينما ترفض إثيوبيا حلوله يصرح بأن «مصر من حقها ضرب السد، ولولا حكمة مصر لكانت حدثت كارثة في المنطقة».
وأشار بكري إلى أن «ترمب على ما يبدو يريد استخدام ورقة (السد) من أجل التلاعب في ملفات المنطقة، وهو لا يرغب في حل الأزمة من أجل مصلحة مصر كما يدعي، بل لتحقيق أهداف يريدها، وفي جميع الأحوال مصر تبحث عن الحلول السلمية؛ لكنها لن تفرط في أمنها المائي ولا أمنها القومي، ولن تقبل بتهجير الفلسطينيين إليها مهما كانت الإغراءات والضغوط».
صورة لـ«سد النهضة» وضعها آبي أحمد على صفحته الرسمية بـ«فيسبوك» في أغسطس الماضي
ومنتصف يونيو (حزيران) الماضي، خرج ترمب بتصريح مثير للجدل، قال فيه إن «الولايات المتحدة موّلت بشكل غبي (سد النهضة)، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمة دبلوماسية حادة مع مصر».
والاثنين الماضي، كرر الحديث نفسه في مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في البيت الأبيض، قائلاً إن «الولايات المتحدة موّلت السد، وإنه سيكون هناك حل سريع للأزمة»، وهو ما دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للإشادة بتلك التصريحات من ترمب، ورغبته في حل الأزمة.
الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، يرى أن «ترمب بتصريحاته المتكررة والمفاجئة خلال هذه الفترة عن (سد النهضة) وضرره لمصر، إنما يريد من ورائها إثبات وجود الولايات المتحدة في منطقة القرن الأفريقي مرة أخرى، خصوصاً في ظل تمدد الصين بأفريقيا، ومن ثم يريد ترمب تحسين العلاقات مع أهم دولتين أفريقيتين هما مصر وإثيوبيا، وبقوله إن بلاده التي مولت (السد) يرسل رسالة للكل حتى لو كانت غير حقيقية، بأن الوجود الأميركي لم ينقطع عن المنطقة، ومن ثم يكون لتدخلاته حيثية وتأثير في الملفات الأفريقية».
تصفح أيضًا: العثور على جثة شاب عشريني أسفل جسر عبدون والأمن يحقق
فرج، مدير الشؤون المعنوية سابقاً للجيش المصري، أوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك مَن يقول إن هدف «ترمب من تلك التصريحات الضغط على مصر، أو مغازلتها لقبول تهجير أهل غزة إليها، مقابل حل أزمة (السد)، وهذا رأي له وجاهة، لكن الهدف الأساسي رغبته في العودة مرة أخرى للتدخل بقوة في ملفات المنطقة، في مواجهة التمدد الصيني، خصوصاً بعدما سحبت أميركا قواتها السابقة من الصومال، وأخلت الساحة للصين هناك، ومن ثم نتوقع منه تحركاً فعلياً في هذا الملف أياً كانت الأهداف».
لقاء بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي على هامش القمة الأفريقية الروسية في 2019 (الرئاسة المصرية)
واحتجت مصر والسودان على مشروع «السد»، باعتباره يهدد إمداداتهما من مياه النيل، وطالبا إثيوبيا مراراً بوقف عمليات الملء بانتظار التوصل إلى اتفاق ثلاثي حول أساليب التشغيل.
الخبير في الشؤون الأميركية المقيم في نيويورك، محمد السطوحي، لاحظ أن «حديث ترمب هذه الفترة عن سد (النهضة الإثيوبي) لم يكن رداً على سؤال من أحد الصحافيين، ولا تعليقاً على تفجر الأوضاع، لكنه جاء بمبادرة منه، ضمن رصده جهود إدارته لتحقيق السلام في أنحاء العالم، وهو يفعل ذلك كثيراً وبلغة تحمل الكثير من المبالغة، وكنموذج على ذلك تأكيده الشهر الماضي أن تدخله عام 2020 منع اندلاع الحرب بين إثيوبيا ومصر، رغم أن المفاوضات التي أجريت تحت رعايته فشلت في التوصل إلى اتفاق، بل ورأينا ترمب بعدها يُحرض مصر على تفجير (السد)، بعد أن رفضت إثيوبيا التوقيع على مسودة الاتفاق التي وقعت عليها مصر».
واستضافت واشنطن خلال ولاية ترمب الأولى جولة مفاوضات عام 2020، بمشاركة البنك الدولي، ورغم التقدم الذي شهدته المفاوضات بين الدول الثلاث (مصر وإثيوبيا والسودان)، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي، بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق، الذي جرى التوصل إليه وقتها، حيث اتهمت إثيوبيا أميركا بـ«الانحياز».
ترمب كرر للمرة الثالثة حديثه عن تمويل بلاده لـ«سد النهضة» (صورة من Getty Images)
وأضاف السطوحي لـ«الشرق الأوسط» أن «لغة ترمب هذه المرة أكثر هدوءاً تجاه إثيوبيا، بما يشير إلى مدخل جديد للتعاطي مع الأزمة، يعمد لإرضاء حكومة آبي أحمد. لكن يظل منطق الصفقات هو الذي يحكم ترمب تجاه كل القضايا، بما فيها القضايا ذات الأبعاد الاستراتيجية المهمة، حتى أن مفاوضات (السد) السابقة خضعت لإدارة وزارة المالية الأميركية، بينما تفرغ وزير الخارجية لتشجيع إثيوبيا على التمرد على الاتفاق. لذلك عندما يتحدث ترمب الآن عن إمكانية تسوية الأزمة سريعاً فهو شيء جيد، لكن ينبغي على مصر الحذر في اعتبار أن ذلك يعكس الواقع، فهو نفسه مَن تحدث كثيراً عن قدرته على وقف إطلاق النار في أوكرانيا خلال 24 ساعة؛ لكنه بعد 6 أشهر لا يزال يتأرجح بين توجيه اللوم لأوكرانيا ثم روسيا».
يضاف إلى ذلك، بحسب السطوحي، أن «ترمب وإدارته يفكران بمنطق الأولويات، ولا أرى خطورة حقيقية لاندلاع المواجهة العسكرية بين إثيوبيا ومصر الآن، رغم التصريحات القوية من الجانبين، فترمب يشغله الآن أمران أساسيان في سياسته الخارجية (غزة وأوكرانيا)، وهو لا بد أن يرى الآن الارتباط الواضح بين أمن مصر المائي جنوباً وأمنها الشرقي على الحدود مع إسرائيل وغزة، وعلى مصر الحذر من تعامله مع الأزمتين في إطار الصفقات، التي يبحث من خلالها عن حلمه القديم للفوز بجائزة (نوبل للسلام)، حتى لو كان في ذلك انكشاف لأمن مصر من الجانبين».