يكمن أحد أسباب نجاح أسلوب غاري شتاينغارت الساخر في إصراره على السخرية من نفسه. فبعد بضع سنوات من نشر روايته الأولى المبهرة «دليل المبتدئة الروسية» (2002)، سخر منها في روايته الثانية «العبث». وجرت الإشارة إلى الرواية باعتبار أن كاتبها يدعى جيري شتاينفارب، وأنها حملت اسم «يد المبتدئ الروسي». ومع أن هذه ليست مزحة خفية، فإن الناس قد يشعرون بالإعجاب تجاه الفنانين الذين يتمتعون بالوعي الكافي الذي يبقيهم سابقين لمنتقديهم بخطوة.
تُقدم لنا رواية شتاينغارت الجديدة، «فيرا، أو الإيمان» – راندوم هاوس، 243 صفحة – بديلاً آخر من بدائله الكثيرة. هنا، أصبح اسمه إيغور شمولكين، وهو كاتب ومحرر مجلة في مانهاتن. وقد تذكرك هذه الشخصية بديفيد رمنيك – لو كان رمنيك روسياً، شديد الاكتئاب، مُنتفخ البطن، يحمل حقائب عصرية ويدخن الكثير من الحشيش. في الواقع، إنه يشبه شتاينغارت في ولعه بالمارتيني، وكونه «مؤثراً» عبر الإنترنت في عالم الأقلام باهظة الثمن، مثلما الحال مع شتاينغارت تجاه الساعات البراقة.
أفضل ما في شمولكين – من وجهة نظر القارئ على الأقل – أنه جاسوس وسارق أرفف الكتب. داخل منازل الآخرين، يأمر أطفاله بمراقبة نسخة المضيف من كتاب «سماسرة السلطة» لروبرت كارو، لمعرفة ما إذا كان الغلاف به كسر. وقبل حفلاته الخاصة، يدفع مبالغ لإعادة ترتيب كتبه، بحيث تكون كتب النساء والأشخاص الملونين في مستوى النظر، ليصقل صورته باعتباره شخصاً يملك مؤهلات لتصحيح الظلم الموجود بالعالم من حوله.
اللافت أنه لا يُسمح لنا بالاقتراب كثيراً من شمولكين، ربما لسبب وجيه، فهذه الرواية الخفيفة، شبه الشيقة، واحدة من أكثر روايات شتاينغارت قتامة. إنها تصور لنا نسخة مستقبلية ديستوبية من أميركا. وفي إطار هذه النسخة، يصبح المستحيل تصوره الآن حتمي الوقوع. والملاحظ أن قصص الديستوبيا أصبحت بمثابة الطعام الجاهز الذي يمضغه كل روائي.
تدور هذه القصة حول فيرا، ابنة شمولكين البالغة 10 سنوات. وتتميز فيرا بشخصية ذكية، قلقة، وحيدة، تسعى جاهدة للحفاظ على تماسك عائلتها المتشرذمة. أما أحد أقرب رفاقها إلى قلبها، فهو كاسبي، مُحاكي الشطرنج، الذي سُمي تيمناً ببطلها، بطل الشطرنج الروسي غاري كاسباروف.
وقد علقت على جدار بغرفة نومها، ملصقاً يحمل صورة كاسباروف، لكنها اكتفت بذلك فقط. (كانت تعلم أن من المفترض أن يُعلق الأطفال المزيد من الملصقات على جدرانهم التي تعكس حياتهم الداخلية، لكنها أحبت أن تبقى حياتها الداخلية مكنفية). جدير بالذكر أن فيرا ابنة مُتبناة. وتُشير إلى والدتها البروتستانتية البيضاء صاحبة الجذور الأنغلو ـ ساكسونية – واسمها آن برادفورد – باسم «ماما آن». أما والدتها الحقيقية، التي لم تلتقِ بها لكنها مُصممة على العثور عليها، فتنتمي إلى كوريا.
وسيلاحظ القارئ بسهولة أن عنوان هذا الكتاب مستوحى من رواية فلاديمير نابوكوف «آدا، أو الحماسة» (1969)، التي تتناول قصة حب دامت مدى الحياة بين أبناء عمومة من الطبقة الأرستقراطية، ثم يكتشفون أنهم أشقاء. واللافت أن رواية شتاينغارت تتناغم مع رواية نابوكوف في عدة جوانب، وإن كانت أوجه التشابه بينهما تبقى عابرة.
نوصي بقراءة: ماذا تبقى من أركون؟
في كلا العملين، نرصد رغبات جنسية غير لائقة، ونعاين آباءً مفترضين ليسوا كما يبدون. ويحمل كل من العملين الأدبيين عناصر من الخيال العلمي، ويتضمنان أساليب تواصل غير متوقعة. من ناحيتها، ترتدي فيرا ربطات عنق على شكل فراشة، مثل إحدى شخصيات رواية «آدا»، ولم يغب عن نابوكوف أن هذه الربطات تشبه فراشاته المحبوبة. وفيرا، بالطبع، اسم زوجة نابوكوف. ولا شك أن جميع أوجه التشابه بين العملين ستكون محل اهتمام طالب دراسات عليا مستقبلاً، بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي.
ومن أوجه التشابه الأخرى الجديرة بالذكر شغف فيرا باللغة – تماماً مثل شغف آدا. («أنا شخصية عاطفية»، حسبما قالت آدا في رواية نابوكوف. «أستطيع تشريح كوالا، لكن ليس صغيره. أحب كلمات مثل (فتاة)، و(زهر النسلين). أحب عندما تُقبّل يدي البيضاء الطويلة».)
وتحتفظ فيرا بدفتر ملاحظات تدوّن فيه الكلمات والعبارات التي ترغب في تذكرها. وتظهر كلمات كثيرة في كلتا الروايتين بين علامتي اقتباس مخيفتين – تلك العلامات التي تُقوّض، كالنمل الأبيض، معنى الكلمة أو العبارة. ورأى نابوكوف أن كلمة «واقع» يجب أن تظهر دائماً بينها.
في إطار سيرته الذاتية لجون شتاينبك، «مجنون بالعالم» (2020)، كتب ويليام سودر عن أحد أبناء شتاينبك أن «أعظم لحظة تجل في طفولته كانت إدراكه أن والده كان أحمق». ونلاحظ أن فيرا تعايش لحظة تجل مماثلة عن والدها، الذي يتحول إلى خائن، أو هكذا يبدو، تجاه كل شيء تقريباً في حياته. وأصبح أنفها معتاداً على رائحة أكاذيبه الكريهة.
أما الأطفال، فإنهم جواسيس صغار، يمتصون الأشياء ويبصقونها، إلى أن يستوعبوا يوماً ما ما يكفي ليلقوا بك في الحضيض. من جهتها، تتجسس فيرا بدأب على والدها. وهناك مشاهد تدور داخل بوابات حديقة «غرامرسي بارك» المغلقة، قد تُعرض بشكل أفضل في فيلم مما هي عليه في الرواية. وبعد فترة وجيزة، تنطلق فيرا في رحلة برية للبحث عن والدتها المفقودة. على حدود بعض الولايات، يجري توقيف النساء عند نقاط التفتيش للتحقق من حالة حيضهن. (يمر الرجال بسرعة في مسارات مخصصة للرجال فقط). وتنتهي الرواية بفرق تدخل سريع تشبه فرق إنفاذ القانون في الولايات المتحدة. من يطاردون؟ هل من الممكن أن سيارة ذاتية القيادة قد وشت بشخص ما؟ ها هم رجال بطائرات هليكوبتر وبنادق طويلة يطرقون بابك.
تتأرجح رواية «فيرا، أو الإيمان» كمؤشر بين المأساة والكوميديا. واللافت أن هذه الرواية تفتقر إلى حيوية أفضل أعمال شتاينغارت، ولا توجد بها طاقة عاطفية دافعة. أضف إلى ذلك، أنه كان تأثير شخصية شتاينغارت نفسه على الورق أقوى من تأثير شخصياته. وفي روايات أكثر هدوءاً كهذه، تبدو هذه الشخصيات غير مدروسة أو محسوسة. في الواقع، يبذل الكاتب جهداً كبيراً كي لا يبدو أبداً وكأنه يبذل هذا الجهد الكبير. وهنا، يبدو الأمر كنقطة ضعف في العمل.
ومع ذلك، يبقى الأمر المؤكد أن رواية شتاينغارت هذه لا تعد بمثابة مضيعة للوقت. الحقيقة أن شعور فيرا المتنامي بذاتها يكاد يكون كافياً لجذبك كي تغرق في هذا العمل، لكن ليس تماماً.
* خدمة «نيويورك تايمز»