عن عمر ناهز 88 عاماً، رحل في هدوء الأديب المصري البارز صنع الله إبراهيم لتفقد الأوساط الأدبية العربية أحد أهم رموز جيل الستينات في فن السرد والرواية، حيث اتسمت أعماله بنبرة صدامية مشاكسة تحمل نقداً لاذعاً لمجمل الأوضاع السياسية والمجتمعية، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين.
ونعى رئيس الوزراء المصري، دكتور مصطفى مدبولي، أديب مصر الكبير، مؤكداً «تقديره للإرث الأدبي الزاخر الذي قدمه الأديب الراحل على مدار تجربته الروائية المُمتدة لعقود، من النصوص الأدبية التي تُرجم بعضها إلى إنتاج فني مرئي، الأمر الذي سيجعل منه أيقونة خالدة في مسيرة الإبداع العربي وأحد رواد الأدب المصري المعاصر».
وأشار مدبولي إلى أن «الإنتاج الغزير الذي أثرى به الفقيد الراحل المكتبة الأدبية العربية، يُمثل مرآة صادقة للمُجتمع بكل تناقضاته، حيث اتسم قلمُه بالعُمق في منظور تناوله للقضايا المُجتمعية الشائكة، والقدرة الفائقة على السرد، وخلق شُخوصٍ من لحم ودم، مع ربط الوقائع بالسياق المحيط، ليكون بحق أحد مؤرخي العصر الحديث في قوالب أدبية فريدة»، على حد تعبيره.
غلاف وردة
ونعاه أيضاً الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري، قائلاً إنه «رحل تاركاً إرثاً أدبياً وإنسانياً خالداً سيظل حاضراً في وجدان الثقافة المصرية والعربية»، لافتاً إلى أن «الراحل مثّل أحد أعمدة السرد العربي المعاصر، وامتازت أعماله بالعمق في الرؤية، مع التزامه الدائم بقضايا الوطن والإنسان، وهو ما جعله مثالاً للمبدع الذي جمع بين الحس الإبداعي والوعي النقدي».
ولفت هنو إلى أن «فقدان صنع الله إبراهيم يُمثل خسارة كبيرة للساحة الأدبية، فقد قدّم عبر مسيرته الطويلة أعمالاً روائية وقصصية أصبحت علامات مضيئة في المكتبة العربية، كما أثّر في أجيال من الكُتّاب والمبدعين».
وعدّ «مركز الجزويت الثقافي» بالإسكندرية أن «الراحل أحد أهم الأصوات الروائية في العالم العربي، وصاحب تجربة إبداعية فريدة جمعت بين الأدب والتوثيق، والخيال والموقف، والصدق والمقاومة»، مشيراً عبر صفحته الرسمية بموقع «فيسبوك» إلى أنه «ترك إرثاً أدبياً سيبقى شاهداً على شجاعته الفكرية ووفائه لقضايا الحرية والعدالة».
وتوالت منشورات النعي والعزاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث أكد أدباء ونقاد ومثقفون «فداحة الخسارة التي مُني بها الأدب العربي برحيل نموذج للأديب الملتزم في التعبير الحر الجريء عن هموم وقضايا بلاده والعالم العربي، سواء على المستوى السياسي العام أو على مستوى الهموم الفردية للمواطن البسيط».
ووصف الكاتب إبراهيم عبد المجيد صنع الله إبراهيم بـ«المعلم وصديق العمر الجميل»، قائلاً إن «كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيراً عن الحزن»، فيما كتب وحيد الطويلة: «صنع الله الكبير، المقاوم دون ضجيج، يخلي مكانه… وجودك كان ظهراً وقوة، قصدت أم لم تقصد».
أما عمار علي حسن فكتب: «فقد الأدب العربي اليوم كاتباً شق لنفسه مساراً متميزاً في الإبداع الروائي، سواء في الشكل أو المضمون، حتى صار هذا بصمة تدل عليه، لكنه في كل الأحوال توسل بفن السرد في مقاومة الظلم والقبح والتخاذل والتكالب والخسة والافتقار إلى الحس الإنساني»، عادّاً في منشور عبر صفحته بموقع «فيسبوك» أن «صنع الله عاش حياة بسيطة متقشفة، جعلته واحداً من كبار الزاهدين بين أهل الكتابة».
قد يهمك أيضًا: «مجرد وقت وسيمضي»… سردية السرطان و«سرد الذاكرة»
ونشرت الكاتبة مي التلمساني كلمة تحت عنوان «شهادة تجرحها المحبة» قالت فيها إن «الكثيرين يجمعون على محبة صنع الله إبراهيم وينظرون بعين الاحترام والتقدير لتاريخه الطويل في الكتابة الإبداعية والنضال السياسي وفي مضمار الثقافة بصفة عامة، من التقوا به أو اقتربوا منه مثلي يُجمعون أيضاً على رهافته وخفة روحه وقدرته على الإنصات والتعاطف الحنون واتساقه التام مع أفكاره وكتاباته».
وأضافت: «صنع الله الذي عرفته وقرأت له منذ أربعين عاماً صادق في الكتابة وفي الحياة، مخلص لهما معاً، وانسحابه التام من دوائر السلطة ومن أنظمة العمل التي يضطر إليها كتاب كثيرون وأنا منهم، يقابله انغماس تام في الكتابة وما حولها، وكأن الحياة اليومية تقف على هامش الكتابة وليس العكس. عرفت صنع الله عن قرب، لكني لم أعرفه بما يكفي ليفسر محبتي غير المشروطة له إنساناً وكاتباً».
وتمضي مي قائلة: «أحياناً كنا نخرج في جولة في حدائق مصر الجديدة، يحدثني عن انتظامه ومداومته الكتابة، وعن أهمية كتابة اليوميات وتدوين تفاصيل الحياة اليومية لأنها قد تصلح فيما بعد لعمل أدبي. عن العلاقة بين التفرغ للأدب ونوع الأدب الذي يهوى كتابته ببطء، وبدأب».
ويروي الكاتب والشاعر شعبان يوسف كيف أنه منذ أن نشر صنع الله إبراهيم روايته الأولى «تلك الرائحة» 1966، وقدّم له الدكتور يوسف إدريس الرواية بحماس شديد، لم يبق العمل أكثر من شهرين، حتى بادرت السلطة بمصادرتها، بعد أن أثارت جدلاً واسعاً بين الرفض والقبول.
وذكر شعبان يوسف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «إدريس كان من أبرز المتحمسين، وقد عدّ الرواية إحدى فتوحات فن السرد في مصر، وكذلك كتب صالح مرسى مقالاً في مجلة صباح الخير يمتدح النص، غير أن العم يحيى حقي لم يحب الرواية رغم اعترافه بموهبة صنع الله الكبيرة، ولكنه عاب استخدام الكاتب لبعض مفردات رأى أنها لا يصح استخدامها في عمل أدبي نظيف»، على حد تعبيره.
ويضيف يوسف أن «الرواية تخلصت تماماً من كل المجازات والعبارات الفضفاضة، التي كانت تزدحم بها الروايات السابقة، لذلك كانت رائدة في وقتها بالنسبة لجيل الستينات، ورغم أن الرقابة صادرتها، فإنها سمحت بنشر كتاب مشترك بين صنع الله ورفيقيه كمال القلش ورؤوف مسعد، عنوانه (إنسان السد العالي)، وهو خلاصة رحلة تم تكليفهم بها رسمياً من جانب أجهزة الدولة».
ومن جانبه، يقول الناقد البحريني دكتور فهد حسين إن صنع الله إبراهيم عاش شامخاً ومات شامخاً، لم يحن جسده ولم يهن شخصه، ولم يعلق تجربته على مشجاب المجاملات والعلاقات الزائفة، وما قدمه من نتاج سردي لا ينبغي أن يحفظ في المكتبات، أو يتحول إلى ذكرى، وإنما على المعنيين بالثقافة والأدب والتعليم الأكاديمي دراسته بل دراسة مجمل شخصية صنع الله بصفته أديباً ملتزماً جعل نصوصه كلها ترتبط بالإنسان والوطن.
ويرى الكاتب أحمد الخميسي أن «صنع الله إبراهيم ينتمي إلى نوعية نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكل من أخلص للكلمة الصادقة، فقد رحل أحد أبرز الروائيين وأكثرهم مدعاة للجدل والنقاش بفضل تعدد أوجه رواياته، فقد امتاز بجانب توثيقي مع مرتكز نقدي حاد للسلطة وقدم كل ذلك في محاولات لكسر شكل الرواية التقليدي».
ويضيف: «ولعل التزامه الفكري بهموم الوطن كان أبرز ملامح تجربته منذ روايته الأولى (تلك الرائحة)، وما تلاها من أعمال مثل (اللجنة) و(بيروت بيروت) و(شرف) و(أميركانلي) و(1970) و(نجمة أغسطس)».
أما الناقدة الدكتورة أماني فؤاد، فأشارت إلى أن «لأسلوب صنع الله إبراهيم خصائص مميزة جعلته أحد الروائيين المتفردين في تاريخ السرد وحاضره. تحرى رصد الواقع بشكل دقيق ومحايد، وقد يميل إلى ضفره بالتوثيق بتقنيات متعددة: عناوين الصحف والجرائد كما فعل في (ذات)، أو بالأبحاث والدراسات كما فعل في (العمامة والقبعة)؛ كما يستخدم الكاتب تفاصيل يومية وعادية ليعكس حالة المجتمع والتحولات السياسية والاجتماعية. تبدو لغة صنع الله إبراهيم في مستواها أحياناً متخلية عن المجازات والألعاب البلاغية، في جمل قصيرة ومباشرة، مما يزيد من سرعة إيقاع النص وحيويته وتدفق إيقاعاته. كما تتمتع بنية نصوصه السردية بالتضافر مع الفنون والمعارف الأخرى؛ ليقدم صورة بانورامية للمجتمع والعالم، ويكشف عن الروابط الخفية بين الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية. وتأتي نماذج شخصياته عادية أو مهمشة تعيش حياتها اليومية في ظل ظروف سياسية واقتصادية قاهرة. لا يمتلك هؤلاء الأبطال القدرة على تغيير الواقع، بل يكتفون بمراقبته والتفاعل معه بشكل سلبي أحياناً، مما يعكس شعور الفرد باليأس والعجز في مواجهة أنظمة الحكم المطلق».