تفجرت مخاوف رسمية ليبية من المساءلة القانونية الدولية، بسبب «غسيل الأموال»، وذلك إثر تداول معلومات دولية بشأن «أنشطة مشبوهة يُشتبه بمرورها عبر النظام المالي الليبي»، وهو ما كشفت عنه لجنة حكومية، وتحدث عنه قانونيون وحقوقيون بوصفه «محصلة للانقسام السياسي» في البلاد.
ولم يفصح بيان صدر، الخميس، عن «اللجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب»، التي يترأسها محافظ المصرف المركزي ناجي عيسى، عن تفاصيل تلك «الأنشطة المشبوهة»، التي أقرت اللجنة بأنها تعكس هشاشة المنظومة التشريعية والمؤسسية الحالية. وحاولت «الشرق الأوسط» التواصل مع مسؤول بـ«المركزي»، معنيّ بهذا الملف، لكن لم يتسنَّ الحصول على رد بشأن ما ذكرته اللجنة عن هذه «الأنشطة المشبوهة».
غير أن العضو السابق بمجلس إدارة المصرف المركزي، مراجع غيث، تحدث عن «شبهات غسيل أموال ضمن عمليات بيع غير قانونية لبطاقات الأغراض الشخصية»، وهي التي تبيعها المصارف للمواطنين بالسعر الرسمي للدولار لأغراض السفر أو العلاج أو الدراسة. علماً أنها كانت تبلغ 4 آلاف دولار، قبل أن يتم تخفيضها إلى النصف بقرار من «المركزي».
وسبق أن أفادت وسائل إعلام تركية بأن السلطات أطلقت تحقيقاً شاملاً في شهر يوليو (تموز) الماضي في شبهات غسيل أموال بقيمة 47.5 مليار ليرة (نحو 3 مليارات دولار) تتعلق بمعاملات عبر ليبيا والعراق.
وأرجع غيث إقحام اسم ليبيا في هذه القضية في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «سوء الأحوال الاقتصادية في البلاد، الذي أجبر قطاعات من المواطنين على إعادة بيع بطاقات الأغراض الشخصية، مقابل مبلغ مالي بالعملة المحلية لبعض التجار والوسطاء، الذين يصرفون الدولار من خارج ليبيا».
وفي غضون ذلك، يبقى التساؤل قائماً حول الوجهة النهائية للدولارات المودعة في هذه البطاقات، وسط شبهات بتوجيه أرصدتها إلى أنشطة غير قانونية، مثل الاتِّجار في الأسلحة أو المخدرات، حسب غيث.
على مدار الأسبوع الماضي كثفت السلطات الليبية تحركاتها بشأن مكافحة غسيل الأموال، إذ عُقد اجتماع لجنة رسمية ترأسها عيسى، وضم ممثلي جهات حكومية في غرب البلاد، كما بحث عيسى الملف نفسه في لقاء مع النائب العام الصديق الصور.
وحصلت «الشرق الأوسط» على صورة ضوئية من رسالة وجهها «المركزي» إلى إحدى الجهات الرسمية في طرابلس، يطالبها بـ«تشكيل فريق إداري كفء مع قرب موعد إخضاع الدولة الليبية العملية التقييم المتبادل، فيما يتعلق بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب».
وحذرت الرسالة من «تصنيف ليبيا ضمن الدول عالية المخاطر، أو غير الممتثلة للمعايير الدولية المكافحة لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، الأمر الذي قد تترتب عليه تداعيات خطيرة على الاستقرار المالي والتعاملات الدولية».
النائب العام الليبي الصديق الصور خلال لقاء مع محافظ المصرف المركزي ناجي عيسى الأربعاء الماضي (مكتب الصور)
تصفح أيضًا: «مصادر»: سميدو يتولى مؤقتا مهام المدير الرياضي في النصر خلفاً لهييرو
في هذا السياق، يرى الباحث الاقتصادي الليبي، علي الصلح، أن استنفار «المركزي» وأجهزته ضد مكافحة غسيل الأموال هو «إعلان عن انتقال جوهري للتخلص من النقود القذرة، والدفع بها خارج الدائرة الاقتصادية»، عاداً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «تداعيات غسيل الأموال تنعكس على سوق صرف العملات الأجنبية والمصارف، حيث تطارد النقود القذرة نظيرتها النظيفة».
والحديث عن غسيل الأموال ليس بجديد في ليبيا، في ضوء حالة الهشاشة الأمنية التي تعيشها البلاد منذ 2011، إذ سبق أن جمدت السلطات قبل 9 أعوام نشاطات 30 شركة بتهمة غسيل الأموال، وذلك على خلفية حصولها على اعتمادات مستندية وهمية، فيما عُرفت إعلامياً بـ«قضية الحاويات الفارغة».
ووفق تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024، احتلت ليبيا المرتبة 173 عالمياً من أصل 180 دولة، لتتصدر ترتيب أكثر 10 دول فساداً في العالم.
في المقابل، فإن اللجنة الحكومية التي يترأسها محافظ «المركزي» تشدد على ضرورة الإسراع في اعتماد مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، تلبيةً لمتطلبات «مجموعة العمل المالي» ومقرها باريس، حسب بيان صادر (الخميس)، وهو أمر يرى الخبير الاقتصادي، مختار الجديد، أنه «يجب أخذه على محمل الجد»، باعتبار أن «دخول قائمة العقوبات سهل، لكن الخروج منها يحتاج إلى جهد مضاعف».
ويلاحظ قانونيون أن «صيغة بيان اللجنة التابعة للمصرف المركزي تعكس الخشية من تصنيف ليبيا سلباً على الصعيد التشريعي، لأنها لم تطوِّر منظومتها القانونية».
ورغم صدور قانون لمكافحة غسيل الأموال عام 2005، فإن أستاذ القانون بجامعة طرابلس، الكوني عبودة، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا القانون «يحتاج إلى تطوير لكي يستجيب لمعايير المنظمة المعنية بالتقييم، لكنه يبقى نافذاً».
أما عن القانون الصادر عن المجلس الرئاسي في عام 2017، فإن «المحاكم لم تطبِّقه لكونه صادراً عن غير مختص»، وفق ما قال عبودة.
وبموازاة المتطلبات القانونية لمكافحة غسيل الأموال، فإن فريقاً من المحللين يرصد صعوبةً في تطبيق المتطلبات والمعايير الدولية، بالنظر إلى «الانقسام السياسي والمؤسسي، الذي طال حتى الجهات السيادية المنوط بها مراقبة تطبيق تلك المعايير والضوابط»، وهي رؤية تبناها الخبير والمحلل المالي، الدكتور خالد الزنتوتي.
ويذهب الزنتوني إلى الاعتقاد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «ليبيا أصبحت أحد الملاذات الآمنة والبيئات الجاذبة للأموال المشبوهة في السنوات الأخيرة، واستغلالها ربما من طرف منظمات إجرامية عالمية متخصصة في غسل الأموال».
ويلقي المحلل الاقتصادي الليبي باللائمة على «دول تدَّعي أنها ملتزمة بالمعايير الدولية في محاربة غسيل الأموال، وتتعامل مع بعض الأطراف الليبية في تحويلات مباشرة تصل إلى الملايين يومياً، تدخل في إطار غير شرعي». مشيراً أيضاً إلى «تحويلات وحسابات مشتركة بين أطراف ليبية وأطراف أجنبية أخرى، وبطرق يدوية واتصالات هاتفية لا تدخل في الدورة المستندية للتحويلات النقدية الشرعية، ولا تخضع لرقابة الأجهزة الرقابية الليبية ولا غيره».
وبالنظر إلى الظروف القائمة في لليبيا منذ سنوات، فإن الزنتوني «لا يجد مبرراً لدول تستقبل وتتعامل مع أطراف ليبية غير رسمية، وربما غير مرّخصة، وعن طريق مكاتب صرافة عاملة ومسجلة رسمياً في تلك الدول».