تعدُّ فلسفة ألسدير ماكنتاير، الذي فارقنا أخيراً في سن الـ96، بمثابة منارة للأمل في زمن يشوبه الارتباك الأخلاقي والتشرذم الاجتماعي. لقد قدم، وهو أحد أبرز فلاسفة الأخلاق في أواخر القرن العشرين، تشخيصاً ثاقباً للحالة الراهنة للأخلاقيات، ورسم في الوقت عينه طريقاً للخروج من «العصور المظلمة الجديدة» التي يرى أنها قد بدأت بالفعل، ليتردد صدى رسالته بقوة لدى أولئك الذين يسعون إلى إيجاد سبيل في خضم ضوضاء الثقافة المعاصرة.
جادل ماكنتاير، في عمله الأساسي الأشهر «بعد الفضيلة»، بأن الأخلاق قد عانت من كارثة مماثلة لما قد تتعرض له المعرفة البشرية في حال حدثت حرب نووية أطاحت بالحضارة، فنحن نؤمن بالحقيقة الأخلاقية الموضوعية والباطل ونستخدم مفاهيم معترف بها تقليدياً مثل «الخير» و«الشر». ومع ذلك، وفي أعقاب عصر التنوير، فقدنا الإطار الكلاسيكي والديني الموروث الذي وفَّر سياقاً لمثل هذه الكلمات. لقد تُركنا بأخلاق العاطفة الشخصية، بلا نقطة مرجعية خارجية، تائهين في بحر من التعددية والفردية بينما نتمسك بقطع من التقاليد المنقطعة عن جذورها.
لقد كانت إجابة ماكنتاير لهذه الفوضى الأخلاقية مختلفة تماماً عن حجج زملائه من نقاد مشروع التنوير، مثل ميشيل فوكو مثلاً. فبدلاً من هدم كل شيء، رفض النظرية المجردة، وأعاد صياغة أرسطو، وتقاليد الفضائل في إطار من التعامل مع البشر ككائنات عقلانية في سياق الممارسات الملموسة والظروف القائمة. وبينما تغرق الفلسفة الأكاديمية الحديثة في حالة يرثى لها، مهووسة بالتفكيك وتنزلق إلى هامش الحياة الثقافية، يواجه عمل ماكنتاير القارئ بخيارات تحدد شكل الحياة اليومية: نيتشه أم أرسطو؟ الفردية الليبرالية والعدمية، أم الخروج من الظلام إلى مجتمع أخلاقي عاقل؟ ولد ماكنتاير في غلاسكو عام 1929 لأبوين يتحدثان الغيلية الأسكوتلنديّة، ودرس الكلاسيكيات في جامعة لندن وحصل على درجة الماجستير من جامعة مانشستر. لم ينل يوماً درجة الدكتوراه، وقد رأى ذات مرة أنه «لن أذهب إلى حد القول بأن لديك عقلاً مشوهاً إذا كان لديك دكتوراه، لكن سيتعين عليك العمل بجهد إضافي مضاعف لتبقى متعلماً».
اقرأ ايضا: شعراء كركوك طوّروا تجربة حسين مردان في قصيدة النثر
بعد مناصب مختلفة في مانشستر وليدز وأكسفورد وبرينستون وإسكس، انتقل بشكل دائم إلى الولايات المتحدة للتدريس في جامعة برانديز. تبع ذلك فترات في جامعة بوسطن وجامعة فاندربيلت وجامعة ديوك، قبل أن يستقر في جامعة نوتردام. كان كتابه الأول هو «الماركسية: تفسير- 1953»، وكان آخر كتبه «الأخلاق في صراعات الحداثة – 2016».
بين هذين الكتابين، تضمنت أعماله المهمة «بعد الفضيلة – 1981»، و«عدالة من؟ وأي عقلانية؟ – 1988»، و«حيوانات عقلانية معتمدة – 1999».
اعتمر ماكنتاير قبعات فكرية ودينية مختلفة طوال حياته. في مسيرته المهنية المبكرة، كان ماركسياً وجادل المفكر الماركسي إي بي تومسون، وفي فترات مختلفة أنجليكانياً، وبروتستانتياً، وملحداً. لم تثبت أي من هذه الهويات الفكريّة أنها مُرضية له، فقادته رحلته في نهاية المطاف من الماركسية الثورية وأعماق الفلسفة التحليلية إلى الكنيسة الكاثوليكية، عبر مزيجه الشخصيّ الخاص من أرسطو وتوماس الأكويني، وخلص إلى أن الأخير كان أرسطياً أفضل من أرسطو نفسه.
ومع ذلك، ظل متأثراً بعمق بنقد ماركس للرأسمالية، وكره كلاً من الفردية الليبرالية والمحافظة المعاصرة. لقد رأى المحافظة الحديثة صورة معكوسة لليبرالية الحديثة؛ ففكرتها التأسيسية عن السوق الحرة المطلقة تدمر المجتمع الأخلاقي بطريقة مماثلة للفردية الليبرالية. وكان أيضاً ناقداً للقومية، وقال بسخرية: «إن الموت من أجل الدولة القومية البيروقراطية الحديثة يشبه أن يُطلب منك الموت من أجل شركة الهاتف». وعندما سُئل عن المعتقدات التي احتفظ بها من فترة تمركسه، أجاب ساخراً: «ما زلت أود أن أرى كل شخص غني معلقاً من أقرب عمود إنارة».