الإثنين, أغسطس 25, 2025
الرئيسيةالثقافة والتاريخ«ما رواه الحكَّاء»... أدب الرحلات بعيون تشادية

«ما رواه الحكَّاء»… أدب الرحلات بعيون تشادية

عن دار «المفكر العربي» بالقاهرة، صدر كتاب «ما رواه الحكّاء عن خلود الأولين»، للكاتب والباحث التشادي، صالح إسحاق عيسى، الذي يتضمن شكلاً مختلفاً من أشكال أدب الرحلات، حيث لا يقتصر هنا على السرد الوصفي للأماكن والمعالم الشهيرة عبر العصور، بل يتجاوز ذلك إلى استكشاف أعمق لعلاقة الإنسان بذاته والآخر والزمن وفكرة الخلود.

ينظر المؤلف إلى الحضارة المصرية بمراحلها المختلفة عبر الحقب الزمنية المتنوعة، بعدّها كياناً يتداخل فيه الحاضر بالماضي، والأسطورة بالواقع، ما يمنح النص بعداً فلسفياً وجمالياً يتخطى المفهوم الشائع. حيث لا يعتمد الكاتب، في وصفه على نقل حقائق المكان فقط، بل على إحياء روحه، من خلال لغة تصويرية تتسم بالرهافة والعمق، وتعنى بتفاصيل صغيرة تبدو عابرة، لكنها تحمل في طيّاتها دلالات ثقافية وإنسانية.

الزمن، الذاكرة، المعابد، الأهرامات، الأسواق، أطياف الناس، كل ذلك يتوالى هنا كمفردات حية تتحرك صعوداً وهبوطاً في نسق غير خطي على شكل طبقات متداخلة، تعكس الذاكرة الجمعية التي لا تنفصل عن تجربة الأفراد، فيصبح النص تجسيداً لرحلة داخل الذات أيضاً، حيث يتحوّل المشهد الخارجي إلى فضاء تأملي، يغوص في معنى البقاء وتحدي الزمن.

تتسم لغة المؤلف بالأسلوب الشاعري مع مسحة رمزية، على نحو يثري التجربة لدى القارئ ويحوّلها إلى حالة ذهنية تفاعلية، فاللغة هنا ليست مجرد أداة لنقل المشاهد، بل وسيلة لاستحضار الحضور العميق للمكان والزمان، مع التركيز على الحواس والتفاصيل التي تعكس طبيعة الحياة في مصر في حقب زمنية مختلفة.

اقرأ ايضا: أحمد المالكي لـ «الشرق الأوسط» : الكتابة لأكثر من مطرب متعة

هنا تتجلى سمة أخرى شديدة الأهمية تتعلق بمفهوم أدب الرحلات نفسه، حيث يتحول من مجرد وصف فوتوغرافي للأماكن لا يتجاوز سطحها الخارجي إلى تأمل فلسفي وجمالي عابر لحدود الذاكرة والوجود، ما يجعله نصاً متعدد الطبقات، يفتح آفاقاً جديدة لفهم مصر وتاريخها من منظور إنساني مختلف.

يبدو ذلك واضحاً على سبيل المثال من وصف المؤلف لقلعة صلاح الدين الأيوبي التي يرى من خلالها أنه في جوف الزمن، حيث تسكن الأسطورة على عتبة الحقيقة، تنهض القلعة فوق صهوة جبل المقطم، كأنها تاج من حجر نُسج بأنامل التاريخ، ومرآة عتيقة تعكس وجوه الغزاة والمجاهدين، والسيوف التي لمع وهجها ثم انطفأ، فقد كان الغيم يوماً يمشي إليها على استحياء، يهمس لأسوارها القديمة بقصص نسيها البشر، ويصافح مآذنها العالية كما يصافح شيخ الجبال العواتي.

يشّبه عيسى القلعة بقلب محارب عتيق، تتردد بين جدرانها أنفاس ألف فارس، وأصداء خطى صلاح الدين حين كان يذرع باحتها صامتاً، كأنه يسمع ما لا يُسمع، ويرى ما لا يُرى، أترى هل كانت تعلم حين نحتت حجارتها الأولى، أنها ستغدو ملاذاً ومرصداً، وسجلاً للدهور؟

ويختتم المؤلف وصفه اللافت والمختلف، قائلاً: «في ركن قصيّ من القلعة، ثمة شق في الجدار، لا تراه العيون إلا إن كانت عاشقة، يقول الرواة إن ذلك الشق فتح يوم رحل صلاح الدين عن القاهرة، وإنه ظل يبكي بحجر صامت، حتى صارت دموعه طحلباً أخضر، ينمو كلما مر زائر يحدّث القلعة عن الحب والخيانة، عن المجد المأساوي الذي لا يكتمل. من شرفاتها لا تطل على المدينة وحدها، بل تطل على ألف عام من الحلم العربيّ الضائع، ترى الأيوبي وهو يخيّط الدروع، وترى المماليك يطعنون الغدر في خاصرته، تسمع الأذان في زمن الظلام، وترى المدافع وقد صارت الآن تماثيل منسية، يشرب فوقها الحمام».

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات