تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة تم الكشف عنها في السنوات الماضية، أهمها وأثراها موقع ساروق الحديد الممتد وسط الكثبان الرملية في جنوب غرب منطقة سيح حفير، عند حدود إمارة أبوظبي. خرجت من هذا الموقع مجموعات متعددة من اللقى الأثرية تمّ تصنيفها بشكل علمي متقن، منها مجموعة كبيرة من المجامر البرونزية تحمل طابعاً محلياً خاصاً، تقابلها بضع مجامر فخارية تتبع طرازاً مغايراً، وتتميّز بحضور أفاعٍ ناتئة، تشكّل جزءاً من تكوين هذه القطع المتعدّدة الأشكال.
يمتدّ موقع ساروق الحديد على مساحة تُقدر بنحو كيلومترين مربّعين، تحوي كميات كبيرة من المعادن الخام. وأظهرت أعمال التنقيب المتواصلة خلال العقدين الماضيين أن هذه المنطقة شكّلت مركزاً من المراكز التي ازدهرت في الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وضمت مركزاً رئيسياً لصهر النحاس وتصنيع الأدوات والأواني خلال العصر الحديدي الثاني، في الحقبة الممتدة من عام 1270 إلى عام 800 قبل الميلاد، كما تشهد المجموعات المتنوّعة من الأدوات المعدنية التي عُثر عليها في نواحٍ متعدّدة من هذا الموقع، ومنها الأسلحة، والخناجر، والسكاكين، والفؤوس، ورؤوس السهام، والأواني، إضافة إلى الأفاعي التي ارتبط حضورها بطقوس دينية لم تتّضح معالمها بعد.
تشكّل المجامر إحدى هذه المجموعات الغنية، وتتمثّل في عدد كبير من القطع، وصل جزء كبير منها بشكل كامل. تتبع هذه المجامر طابعاً جامعاً في صياغتها، غير أنها تتشابه دون أن تتماثل، وتظهر هذه الخصوصية عند دراسة تفاصيل مكوّناتها بدقّة. يتجلّى هذا النسق المتعدّد الأشكال على سبيل المثال في ثلاث قطع، يشكّل كلّ منها نموذجاً من نماذج هذه الصناعة المحليّة.
تتمثّل القطعة الأولى بساق أسطوانية قصيرة يعلوها الصحن المخصّص للجمر، وترتفع هذه الساق فوق قاعدة دائرية تماثل في تكوينها صحن الجمر. يبلغ طول الساق 21 سنتيمتراً، وهو مكوّن من قطعتين متصلتين مجوّفتين، يفصل بينهما شريط عريض مجرّد. تختلف هاتان القطعتان المجوّفتان في الحجم، حيث يبلغ قطر الجزء الأعلى ضعف قطر الجزء الأسفل كما يبدو. في المقابل، يبلغ قطر صحن الجمر 19 سنتيمتراً، وعمقه 5 سنتيمترات، وتحدّه سلسلة من الأسنان تتكوّن من 15 سناً مزدوجة، أي ذات رأسين. صحن القاعدة مماثل لصحن الجمر في الشكل كما في التكوين، وقاعدته مسطّحة ومستوية.
اقرأ ايضا: «حكايات من ذاكرة المكان»… قرية أردنية تختزن الوطن والهوية
تتمثّل القطعة الثانية بصحن جمر ثُبّت فوق عمود ذي 3 قوائم. قطر الصحن 13.5 سنتيمتر، وعمقه 3 سنتيمترات، وهو مجرّد من أي حلّة تزيينية. يأخذ عمود الحامل شكل قضيب أسطواني طوله 10 سنتيمترات، وقطره سنتيمتران. يحدّ القسم الأعلى من هذا القضيب قرصان يشكّلان قاعدة لصحن الجمر، وتحدّ القسم الأسفل 3 قوائم ذات زوايا حادة، صيغت أطراف أقدامها على شكل ما يُعرف في قاموس علم الآثار بـ«قدم الثور».
نصل إلى القطعة الثالثة، وتتكوّن من صحن جمر يرتفع فوق عمود ثبّت على قاعدة دائرية، تماثل في تكوينها هذا الصحن. قطر هذه القاعدة 11 سنتيمتراً، وكذلك قطر صحن الجمر، وتزيّنها سلسلة من الأسنان المزدوجة تماثل تلك التي تزين صحن الجمر إلى حد التطابق. طول عمود الحامل 22 سنتيمتراً، وهو على شكل قضيب أسطواني يحدّه في الوسط شريط عريض مكوّر، وتعلو هذا القضيب نقوش ذابت معالمها وانمحت بشكل كبير.
تقابل هذه المجامر البرونزية مجامر فخارية تختلف عنها في التكوين كما في الزينة، حيث تتبع نسقاً خاصاً بصناعة الفخار، راج في نواحٍ عدة من الإقليم العُماني. ظهرت هذه المجامر تباعاً في السنوات الأخيرة، وأولاها قطعة حافظت على تكوينها بشكل كامل، طولها 16.4 سنتيمتر، وهي على شكل طبق قطره نحو 15 سنتيمتراً، يرتفع فوق عمود أسطواني قصير تخرقه فتحتان كبيرتان، تحدّه قاعدة دائرية مستوية. يزين هذه المبخرة نقش تصويري ناتئ يتمثّل بثعبانين ملتويين متواجهين، يحضر كلّ منهما بشكل عمودي عند طرف من طرفي المجمرة. وهذان الثعبانان متشابهان، ورأساهما على شكل مثلث يرتفع عند طرف صحن المجمرة، وتُزيّن بدنيهما شبكة من الدوائر المحفورة.
يتكرّر هذا الحضور الأفعواني بشكل مشابه على مجمرة أخرى يأخذ صحنها صورة نجمة البحر بأطرافها المقوّسة، حيث يحضر الثعبان عمودياً، ممتداً ببدنه من ساق المجمرة، ملامساً برأسه طرف الصحن الأعلى. ونقع على مجمرة ثالثة صيغ صحنها بشكل مماثل، وظهرت من حول هذا الصحن أفعى تمتدّ أفقياً، كما ظهرت أفعى أخرى تلتف من حول القاعدة المسطّحة الخاصة بهذه المجمرة.
حضرت هذه الأفاعي في تكوين المجامر الفخارية، وغابت كلّياً عن تكوين المجامر المعدنية. واتبعت صياغة هذه الأفاعي النسق الخاص الذي ساد في تلك البقاع من الإقليم العُماني خلال تلك الحقبة من الماضي البعيد.
