جلس محمد صلاح داخل معبد في طوكيو، يُغمض عينيه في صمت، وكأنه يحاول الانفصال عن زخم العالم ولو لدقائق. المشهد كان غريبًا على جمهور يتابع نجمه المصري العربي المحبوب في مكان يرتبط بثقافة دينية أخرى. لكنه في جوهره، لم يكن أكثر من لحظة تأمل إنساني، اعتاد عليها الكثير من الرياضيين وسط ضغوط لا تُحتمل.
أثار محمد صلاح الجدل بتواجده في ذلك المعبد، مشهد ربما غريب كما ذكرنا، خاصة للنجم المصري، مع رفض البعض تلك الطقوس التي قام بها أسطورة ليفربول.
ما بين مؤيد ومُعارض، كان الجدل خلال الساعات الماضية على محمد صلاح، ولكن ما نرصده في الأسطر التالية، ليس دفاعًا أو هجومًا على النجم المصري، لكنه مجرد توضيح، وقراءة للمشهد.
لقطات محمد صلاح الأخيرة، أعادت للذاكرة قصة روبرتو باجيو، أحد أساطير الكرة الإيطالية، الذي مرّ بتجربة مختلفة، انتهت به إلى اعتناق البوذية بعد سنوات من الإصابات والتقلبات.
ورغم التباين الجوهري بين التجربتين، إلا أن الرابط المشترك بينهما هو بحث الإنسان عن معنى، عن هدوء، عن مخرج نفسي من عالم لا يرحم، خاصة وأنه لاعب كرة قدم.
بالتأكيد لم يبحث محمد صلاح عن عقيدة جديدة، ولم يُصرّح بذلك يومًا، بل ربما كانت جلسته تلك لحظة صمت داخلي، يمرّ بها كل إنسان تحت ضغط مستمر.
ومثلما مرّ باجيو بلحظة تحول من بوابة الألم، فإن صلاح، رفقة زملائه في ليفربول، حصل على تلك الجلسة، قبل أن يعود لمواصلة الركض من جديد.
بعيدًا عن أي ارتباط ديني، بات التأمل يُعدّ وسيلة منتشرة عالميًا للتخفيف من التوتر النفسي وتحسين التركيز، وهي ممارسة ذهنية اعتمدها العديد من الرياضيين والمشاهير في مختلف الثقافات.
كما أنه في بعض الدول العربية، ومنها مصر، ازديادًا ملحوظًا في الإقبال على جلسات التأمل التي تُقدَّم في مراكز صحية ونوادٍ رياضية كجزء من برامج العناية بالصحة النفسية واللياقة الذهنية، تحت مُسمى “اليوجا”.
وتُقدَّم هذه الجلسات غالبًا في أجواء هادئة بعيدًا عن الصخب، بين الأرض الخضراء ووسط الأشجار والنباتات، وتُستخدم فيها تقنيات التنفّس العميق والصمت المؤقت، دون أن تحمل طابعًا عقائديًا. الهدف منها ليس الترويج لأفكار دينية، بل تهيئة الإنسان لمواجهة ضغوط الحياة اليومية بمزيد من التوازن والهدوء الداخلي.
الأسطر التالية، مقتطفات من كتاب روبرتو باجيو Il Divin Codino (ذيل الحصان الإلهي).
في عام 1985، انضم روبرتو باجيو إلى فيورنتينا، ولكن بعد التوقيع الرسمي وقبل ذهابه إلى فلورنسا، تعرض لإصابة قوية مع فريقه “فيتشينزا”، أدت لعملية جراحية.
توقع باجيو بأن فيورنتينا لن يقبل بانضمامه، خاصة وأن الإصابة بالرباط الصليبي والغضروف المفصلي، استدعت 220 غرزة للاعب الواعد.
ورغم المخاوف بشأن حالته، انتقل باجيو للعيش بمفرده في فلورنسا، واهتم به النادي كثيرًا وتعافى، ليبدأ جمهور فيورنتينا في انتظار اللاعب الواعد الجديد في ملعب أرتيميو فرانكي.
كان باجيو يحصل على راتبه، وذات يوم أخبرته إدارة فيورنتينا بمشكلة في صرف شيكات الراتب، ليرد باجيو: “هذا أمر طبيعي، أنا أحصل على أموال دون أن ألعب”.
ليرد إداري الفيولا ساخرًا: “عليك الذهاب لصرف الشيكات، ولابد أن تبتهج قليلًا، لماذا أنت حزين لهذه الدرجة؟ الإصابات جزء من كرة القدم”.
ذهب باجيو إلى أحد متاجر الكتب، والتقى بالبائع “ماوريسيو”، وعندما سأله عن أحد ألبومات الفرق الغنائية، رد عليه: “هذه المرة الثالثة التي تسألني فيها، ولم تصدر لهم أغنية واحدة منذ 6 سنوات”.
وأثناء شرود باجيو، قال له ماوريسيو: “باجيو! هل كل شيء على ما يرام؟”.
هنا رد روبرتو: “كيف تعرف اسمي؟”.
أخبره ماوريسيو: “هل تظن أنني لن أعرف أكثر لاعب واعد لدينا في فيورنتينا؟”
كان باجيو حزينًا، وسخر من حديث بائع الكتب، قبل أن يعطيه الأخير كتابًا، وقال له: “هذا الكتاب أفادني كثيرًا بعنوان (الثورة الإنسانية)، وسأكتب لك عنواني، حتى يمكنك المرور بمنزلي للحديث سويًا إذا أردت”.
قضى باجيو ليلة رأس السنة، وبدأ عام 1988، وهو لا يزال يبحث عن ذاته، والقلق يزداد حول وضعه في فيورنتينا، ليقرر الذهاب إلى الشخص الوحيد الذي يعرفه في فلورنسا.
ماوريسيو، بائع الكتب، الذي التقى باجيو في منزله، وأخبره: “هل سنتمرن نصف ساعة ليستنر ذهنك؟”، لكن باجيو طلب أن يحصل على ساعة أو ساعتين، مستغلًا فراغه طوال اليوم.
وأثناء تحضير ماوريسيو طقوس الجلسة، وجد باجيو صورة على الحائط، ليسأل صديقه الجديد عنها، ليُخبره: “هذا مُعلمي، دايساكو إيكيدا”.
قد يهمك أيضًا: لاعب واحد في ريال مدريد يكشف رؤية تشابي ألونسو
بدأ باجيو بالتعلّق بعد تلك الجلسة، وبعد ذلك ذهب لبعض المعابد، وخضع للعديد من الجلسات، مع عودة الفريق من الإجازة، وعندما جلس مع ماوريسيو، أخبره أن هدفه هو الاستدعاء للمنتخب الوطني.
سخر منه ماوريسيو: “أنت على بعد الانتقال للدرجة الثانية، وتُفكر في الذهاب للمنتخب الوطني، كيف تفكر في ذلك الآن؟”.
في اليوم التالي، وبعد التدريبات، جاء إداري فيورنتينا إلى باجيو، وأخبره: “عليك الذهاب إلى بيسكارا، ولكن ليس للانتقال إليهم، بل للانضمام إلى معسكر المنتخب الإيطالي، إنهم ينتظرونك”.
شعر باجيو بأن الاسترخاء والطقوس التي يقوم بها كانت سببًا أساسيًا في تحسين حالته النفسية، وفي 1990 انضم إلى يوفنتوس، وأصبح أفضل لاعب في العالم 1993.
ويأتي كأس العالم 1994، وبعد دور مجموعات سيئ، وخلافات مع أريجو ساكي مدرب المنتخب، بدأ باجيو في الأدوار الإقصائية ينثر سحره.
هدفان ضد نيجيريا، وآخر أمام إسبانيا، وثنائية ضد بلغاريا، لتأتي المباراة النهائية أمام البرازيل، في ركلات الترجيح، يُهدر باجيو ركلة أمام تافاريل، وتضيع الحلم على الأزوري.
في بعض الروايات، يُقال إن الجملة التي كُتبت على جدران الفاتيكان كما يتم تناقلها “سيغفر الرب للجميع إلا باجيو” لم تكن بسبب إهدار الركلة التاريخية، بل بسبب اعتناق باجيو الديانة البوذية، وهو ما لم يلقَ قبولًا في إيطاليا ذات الأغلبية المسيحية الكاثوليكية.
زوجة باجيو فقط هي من كانت تعرف ما يقوم به بشأن جلسات الاسترخاء، حتى اعتنق الديانة البوذية، وهو ما تم تسريبه للإعلام، خاصة وأن وكيله أيضًا كان يعتنق تلك الديانة.
وبعد تتويجه بالكرة الذهبية، ظهر باجيو وهو يُهدي “دايساكو إيكيدا” قميص منتخب إيطاليا، وهو الرجل الذي سأل عنه عندما وجد صورته على حائط صديقه ماوريسيو.
إيكيدا يعتبر أحد القادة الروحيين للبوذية بين أواخر القرن العشرين وأوائل الألفية، وأسس حزبًا سياسيًا، وشغل منصب الرئيس الثالث لمنظمة “سوكا غاكاي” البوذية.
تأثر باجيو كثيرًا بذلك الرجل، خاصة جملته الأشهر في الكتاب الذي حصل عليه باجيو من ماوريسيو: “إن الثورة الإنسانية لفرد واحد ستساهم في تغيير مصير أمة، وستؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير مصير البشرية بالكامل”.
باجيو مر بخيبات عديدة، ما بين الإصابة قبل الانضمام إلى فيورنتينا، وركلة الترجيح في نهائي 1994، وإصابته مع بريشيا، وعدم انضمامه لكأس العالم 2002 وخدعة ترباتوني له.
جميعها أشياء قال باجيو إنه تغلب عليها بفضل ما كان يقرأه في كتب إيكيدا، مما جعله بعد ذلك يعتنق البوذية، رغم رفض عائلته.
في يونيو الماضي، وخلال تواجده في بودكاست “BSMT”، قال باجيو: “واجهت صعوبة في التواصل مع الآخرين، لأنني شعرت دائمًا أنني ضحية، ثم تعرفت على البوذية، بدأت بالممارسة، وبعد 10 أيام غيّرت حياتي، لم أتوقف عن الممارسة أبدًا”.
وشدد: “أدركت أن كل شيء يعتمد عليّ، وأنني لا أستطيع لوم الآخرين على أفعالي، ولكن سلوكي تغيّر بعدما وجدت في جلسات الاسترخاء نفسي، لقد أصبحت شخصًا آخر”.
لن يكون محمد صلاح مثل روبرتو باجيو للعديد من الأسباب، خاصة وأن الجلسة التي حضرها مو كانت بين زملائه في الفريق، ويقومون بطقوس، من أجل تصفية الذهن والاسترخاء فقط.
بالإضافة إلى ذلك، فإن محمد صلاح إيمانه الشديد، وتمسكه بالعقائد الدينية، يمنعه من تكرار ما فعله روبرتو باجيو، الذي كان صغيرًا في السن ويحاول التعرف على ذاته، ووحيدًا بعيدًا عن أسرته.
محمد صلاح حاليًا في سن الـ33، فهو شخص مُدرك تمامًا لأفعاله، وحتى إن كانت تلك الصور التي انتشرت له قد أغضبت مشجعيه، وأثارت الجدل بين عشاقه، ولكن في النهاية هي ضريبة النجومية.
لقد كان الجميع يهاجم باجيو عندما علموا بما فعله، وفي مقدمتهم والده، الذي تراجع في لحظة استبعاد روبرتو من كأس العالم 2002، حتى لا يضغط أكثر على نجله.
في أبريل 2019، احتفل محمد صلاح بهدفه في تشيلسي بطريقة “اليوجا” أو “وضع الشجرة”، وهو ما أكد عليه بعد ذلك النجم المصري، أنه يُمارس اليوجا دائمًا لتحسين التوازن والتركيز، مشيرًا إلى أهميتها في حياته.
احتفال صلاح باليوجا في 2019 ضد تشيلسي، جاء بعد هجوم كبير من جماهير البلوز عليه قبل المباراة، وهتافات عنصرية قبل اللقاء بأيام في شوارع لندن ضد لاعبهم السابق.
وأظهر مو باحتفاله روح التسامح ضد جمهور البلوز، الذي ظل صامتًا يشاهد احتفال النجم المصري بهدفه الخُرافي في شباك الحارس كيبا أريزابالاجا.
في أبريل من العام الماضي 2024، تحدث محمد صلاح عن تأثير اليوجا في حياته: “عندما أستيقظ أجلس على حافة السرير، وأجلس بشكل مستقيم وأُغمض عيناي، وأتخيل ما أريد تحقيقه، وأعلم أن أي شيء بمجرد أن أتخيله سيحدث. هذا الأمر يقلل من حدة التوتر لدي. ومع مرور الوقت يصبح الأمر أسهل”.
الحديث عن تأثر محمد صلاح أثناء جلسة المعبد في طوكيو، ربما يكون لارتباطه باليوجا، وأهميتها في حياته، ليس تأثرًا بحديث المُعلم في المعبد كما روّج البعض.
كل هذه الأمور استنتاجات، بدليل تصريحات النجم المصري السابقة، وليس أمرًا حتميًا، مجرد تحليل وقراءة للمشهد، لكن الشيء الوحيد المؤكد، أن محمد صلاح ليس روبرتو باجيو، لكل ما سبق ذكره.