في ظل تعرض كثير من المخطوطات النادرة والوثائق الثمينة التي تتمتع بقيمة تاريخية عالية، إلى حالات من التلف والتهالك مع تقادم السنوات، مما يفقدها قيمتها ويحرم الباحثين من ثمرات الاعتماد عليها في تسليط الضوء على الحكاية التاريخية المرتبطة بها، يعمل مركز سعودي على ترميم آلاف الوثائق وإعادتها إلى الحياة في حلّة جديدة وسليمة. وأطلق «مركز الملك سلمان للترميم والمحافظة على المواد التاريخية»، أعماله لأول مرة عام 2005، وحقَّق نقلةً نوعيةً في تاريخ حماية المصادر التاريخية وربطها بالحاضر، من خلال المحافظة على الوثائق والمخطوطات القديمة والاعتناء بها.
نسخة لمخطوطة «فلك القاموس المحيط» العائدة إلى القرن الثاني عشر الهجري إحدى نوادر المخطوطات التي جرى ترميمها (مركز الترميم)
وتمكَّن «مركز الملك سلمان للترميم»، التابع لـ«دارة الملك عبد العزيز»، الذي انطلق قبل عقدين لتغطية احتياجات السعودية في التعامل مع الإرث التاريخي المحفوظ في الوثائق والمخطوطات، من معالجة 106505مواد متنوعة؛ للحفاظ على قيمتها التاريخية، وترميم 55127 وثيقة تاريخيّة وإعادتها إلى الحياة واسترداد صورتها الأصلية، إضافة إلى تعقيم 329758 ورقةً؛ لضمان خلوها من جميع الآفات، وتجليد 3916 كتاباً لحمايته من عوامل الزمن. وزارت «الشرق الأوسط» مقر المركز وسط مدينة الرياض، وشهدت على حالة ترميم إحدى الوثائق النادرة، الذي تبدأ مراحله بفحص الوثيقة ثم تعقيمها، وتنتهي بحفظها في ذخائر المركز بحلة جديدة تحميها لعقود مقبلة.
تبدأ أولى خطوات إصلاح الوثيقة أو المخطوطة بتعقيمها (تصوير: تركي العقيلي)
رحلة الوثيقة لاستعادة رونقها
يلتزم «مركز الملك سلمان للترميم» منذ 20 عاماً بالحفاظ على التراث، باستخدام أحدث التقنيات، والاستعانة بالكوادر السعودية الماهرة؛ لضمان بقاء الهوية والأصالة التاريخية. وتبدأ أولى خطوات إصلاح الوثيقة أو المخطوطة بتعقيمها؛ للقضاء على الآفات الحشرية والفطرية الموجودة داخلها، وتتم العملية الفنية من خلال تعريضها لغاز الأوزون. وبعد التعقيم تبدأ المعالجة الكيميائية، ويتم فيها التخلص من الأتربة والعوالق، وذلك في معمل المعالجة الذي يتعامل مع درجة الحموضة في الأوراق لبدء عملية الترميم.
ثم تنتقل الوثيقة إلى معمل الترميم، حيث تستعيد الوثيقة أهميتها وقيمتها، من خلال إصلاح الأجزاء المتضررة من الثقوب والتآكل وتهالك نوعية الورق، من خلال خطوتي الترميم اليدوي والآلي.
وبانتهاء رحلة الترميم، يقوم المركز بحفظ وأرشفة الوثائق والمخطوطات لنُسخ عدة بطرق آمنة جداً، ويتم حفظها في مخازن خاصة، مع حفظ نسخها من خلال التصوير الرقمي أو «المايكرو فيلم»، الذي يتيح الاحتفاظ بالوثيقة لأزمنة طويلة.
وبالوصول إلى آخر مراحل الترميم، يتم العمل على الوثائق والمخطوطات في معمل التجليد؛ للمحافظة عليها وإعادة تجليدها وزخرفتها بالنقوش المذهبة وبأساليب متميزة. كما يقدم «مركز الملك سلمان بن عبد العزيز للترميم والمحافظة على المواد التاريخية»، خدمة الكشف عن التزوير؛ للمساهمة في مكافحة هذه الممارسة، والحفاظ على الدقة التاريخية وحماية السردية من أي خلل علمي أو تلاعب سياسي يضر بالنتيجة العلمية.
اقرأ ايضا: انطلاق سوق الانتقالات الصيفية للدوري السعودي للسيدات
انطلق المركز قبل عقدين لتغطية احتياجات السعودية في التعامل مع الإرث المحفوظ بالوثائق والمخطوطات (تصوير: تركي العقيلي)
إتاحة الوثائق التاريخية القيّمة
في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، أطلقت «دارة الملك عبد العزيز» مبادرة «وثائق الدارة»، وهي مبادرة معرفية ومجتمعية؛ تهدف إلى إتاحة مجموعة مختارة من الوثائق التاريخية ذات القيمة والأثر؛ لتعزيز الوعي الوطني بأهمية الوثائق بوصفها مصادر أصيلة لفهم التاريخ، وضمان سرعة الوصول إليها، وسهولة استرجاعها.
وتسعى المبادرة إلى تعزيز حضور الوثائق التاريخية في المشهد الثقافي في السعودية، وربط الأجيال الجديدة بجذورهم التاريخية من خلال إتاحة مصادر أرشيفية متنوعة تشمل مجالات السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والثقافة، والمعرفة. وتمثل هذه المرحلة انطلاقة لعمليات تكشيف وإتاحة الوثائق التاريخية عالية القيمة، ضمن سلسلة مراحل عمل مستمرة تهدف إلى تمكين الباحثين من الوصول إلى محتوى موثوق، وفق معايير علمية دقيقة تضمن الحفظ والتوثيق، والاستخدام البحثي والثقافي الأمثل.
أطلقت «دارة الملك عبد العزيز» مبادرة لإتاحة مجموعة مختارة من الوثائق التاريخية ذات القيمة والأثر (تصوير: تركي العقيلي)
وتتيح الدارة وثائقها للطلب عبر الخدمات الإلكترونية المتوفرة في البوابة الرقمية لـ«دارة الملك عبد العزيز»، بينما يمكن الاطلاع المباشر عليها والبحث في محتواها من خلال مركز خدمات المستفيدين.
باستخدام أحدث التقنيات والاستعانة بالكوادر السعودية الماهرة يتم ضمان بقاء الهوية والأصالة التاريخية للوثائق (تصوير: تركي العقيلي)
وتمثل هذه القنوات نافذة تتيح للباحثين والمهتمين الوصول إلى آلاف الوثائق المحفوظة بعناية، والتفاعل معها بحثاً وتحليلاً، ما يسهم في فهم أعمق للتاريخ واستشراف آفاق المستقبل
مخطوطة نادرة من التراث العلمي لـ«بن لعبون» نُسخت في القرن التاسع عشر الميلادي عُني المركز بترميمها (مركز الترميم)