قبل نصف قرن، وفي خضمّ انقسامات الحرب الباردة، سُطر حدث تاريخي واحد في أعالي الأرض؛ مصافحة في المدار بين رواد فضاء أميركيين وسوفيات غيّرت مسار التعاون الدولي في الفضاء إلى الأبد.
إذ في 17 يوليو (تموز) 1975، تُوّج مشروع اختبار أبولو-سويوز بلحظة تواصل تجاوزت الحواجز الآيديولوجية، مانحةً الأمل في عصرٍ اتسم بالريبة والتنافس.
اللقاء الفضائي بين ستافورد وليونيف
كانت لمسة اليد بين العميد توماس ستافورد والعقيد أليكسي ليونوف، على ارتفاع نحو 140 ميلاً فوق ريف فرنسا المترامي الأطراف، أكثر بكثير من مجرد تحية مكتوبة. لقد كانت انتصاراً واضحاً للدبلوماسية والإبداع البشري على عقود من المنافسة الجيوسياسية الشرسة. بالنسبة لمن شاهدوا الصور المتلفزة على سطح كوكبٍ مُشحون بالتوتر. كان المشهد لا يُصدق: ممثلو قوتين عظميين، بدا وجودهما مُحدداً بانعدام الثقة المتبادل، لا يجتمعان كخصوم، بل كزملاء… وللحظة عابرة، كأصدقاء.
منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، كان سباق الفضاء انعكاساً للحرب الباردة الأوسع، حيث انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في منافسة شرسة على التفوق في العلوم والتكنولوجيا والهيبة الوطنية. قاد السوفيات الطريق بإطلاق «سبوتنيك» عام 1957 ثم رحلة يوري غاغارين الرائدة عام 1961، بينما أذهل الأميركيون العالم بهبوط «أبولو 11» على سطح القمر عام 1969. اعتُبر كل نجاح انتصاراً للآيديولوجيا بقدر ما هو انتصار للهندسة، وكان الفضاء ميدان الاختبار النهائي.
ومع بزوغ فجر السبعينات، كان العالم يتغير. إذ فتح الانفراج، الذي مثّل تحسناً في العلاقات بين واشنطن وموسكو، الباب أمام تعاون حذر. بدأ علماء ودبلوماسيون من كلا البلدين يتصورون مهمةً من شأنها ردم الهوة بين عالمين -التحام غير مسبوق لمركبتين فضائيتين وتبادل للتحية والمعرفة والثقة. بعد سنوات من المفاوضات، وُلد مشروع اختبار «أبولو-سويوز».
رواد الفضاء الأميركيون والسوفيات المساهمون في اللقاء الفضائي… من اليسار: دونالد سليتون وتوماس ستافورد وفانس براند ثم ألكسي ليونوف وفاليري كوباسوف
في ذلك اليوم الصيفي من عام 1975، اقتربت مركبتان فضائيتان -«أبولو» من الولايات المتحدة، و«سويوز» من الاتحاد السوفياتي- كلتاهما من الأخرى في هدوء مدار الأرض المنخفض الشاسع. كانت التحديات التقنية وحدها هائلة: فقد طورت الدولتان أنظمة التحام غير متوافقة، وتحدثتا لغات مختلفة، واتبعتا بروتوكولات منفصلة تماماً. وتطلَّب حل هذه المشكلات من المهندسين ورواد الفضاء العمل جنباً إلى جنب، والعمل على المخططات وأجهزة المحاكاة، وتعلم كل منهم أنظمة الآخر، وحتى بعض المهارات اللغوية الأساسية.
رسم توضيحي للقاء المركبتين
تصفح أيضًا: لماذا يصاب بعض الأطفال بالتهاب المفاصل؟
وعندما فُتحت الأبواب، لم يكن الهواء فقط هو ما يتدفق بين المركبتين، بل روح الإمكانية. تبادل ستافورد، الذي كان يتحدث الروسية بحذر، وليونوف، الذي كان يتحدث الإنجليزية ببهجة، التحية على قدم المساواة في سعيهما نحو المعرفة.
كانت المصافحة نفسها مُرتَّبة بدقة متناهية، لكنَّ الدفء والراحة على وجهيهما كانا حقيقيين. تبادلا الهدايا -أعلاماً وشعارات وشتلة شجرة، رموزاً للسلام والنمو. لعدة ساعات، طاف الطاقمان معاً، يتشاركان وجبات الطعام، ويُجريان تجارب مشتركة، وينعمان بروح الزمالة التي عززتها مغامرتهما المشتركة.
شهد ملايين الأشخاص على هذه الشراكة على الأرض. وقدمت الصور، التي نُقلت عبر القارات واللغات، رؤية لما يمكن إنجازه عندما تفسح المنافسة المجال للتعاون. وفي الفصول الدراسية وغرف المعيشة، من موسكو إلى هيوستن، رأى الأطفال والكبار على حد سواء إمكانية لمستقبل لا تتشكل فيه العداوة، بل بالفضول والاحترام المشتركين.
الرئيس الأميركي جيرالد فورد يستقبل الرواد
لم تُنهِ مهمة «أبولو-سويوز» الحرب الباردة، ولم تُبدد التوترات بين القوى العظمى. ومع ذلك، فقد غرست بذوراً أثمرت بعد عقود. ومهَّدت المعايير التقنية التي وُضعت للمهمة الطريق لمشاريع تعاونية مستقبلية، بما في ذلك برنامج المكوك الأميركي-مير السوفياتية، والأهم من ذلك، محطة الفضاء الدولية.
على مر السنين، أصبحت محطة الفضاء الدولية مختبراً عائماً ورمزاً للشراكة الدولية. عاش رواد الفضاء الأميركيون والروس وعملوا معاً في المدار، أحياناً لأشهر متواصلة، معتمداً بعضهم على بعض من أجل البقاء والنجاح. استمر هذا التعاون حتى مع تقلب العلاقات على الأرض، مما يثبت أن الروابط التي تُبنى في الفضاء قادرة على الصمود أمام العواصف الأرضية.
مع ذلك، لا يزال مستقبل هذا التعاون غامضاً. فمحطة الفضاء الدولية تشيخ، ولا يوجد مشروع حلف واضح يجمع روسيا والولايات المتحدة بنفس الطريقة. لقد تحوّل المشهد الجيوسياسي: فبينما يستمر التعاون الأميركي – الروسي، برزت منافسات جديدة، أبرزها برنامج الفضاء الصيني الطموح. وبالنسبة إلى الكثيرين، قد يبدو تفاؤل «أبولو-سويوز» بمثابة بقايا حقبة أكثر تفاؤلاً.
ومع ذلك، لا يزال المثال الذي ضربه رواد الفضاء قبل نصف قرن قائماً. وكما يُذكّرنا مؤرخون مثل آصف صديقي، حتى عندما تبدو المواجهة حتمية، فإن لحظات التواصل ممكنة دائماً. ولا تظل المصافحة في المدار رمزاً لما جرى تحقيقه، بل لما يمكن تحقيقه. إنها تُذكّرنا بأن العلم والاستكشاف، في أفضل حالاتهما، يتجاوزان الحدود ويُبرزان أسمى مُثُل الإنسانية.
وبينما يواجه العالم تحديات جديدة في الفضاء وعلى الأرض، تُقدّم ذكرى «أبولو-سويوز» نموذجاً للمستقبل -شهادة على قوة التعاون البشري والإيمان بأنه حتى أعمق الانقسامات يُمكن تجسيرها؛ بمصافحة تلو الأخرى.
* باختصار – خدمة «نيويورك تايمز».