من المنتظر أن يستكمل «مكتب خدمات الرقابة الداخلية» التابع للأمم المتحدة، الشهر المقبل، التحقيق الذي يجريه بحق كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، استجابة للطلب الذي تقدمت به «جمعية الدول الأطراف» في المحكمة، بخصوص الاتهامات الموجهة إليه بشأن مزاعم باعتداءات جنسية تعرضت لها، لأشهر طويلة، إحدى مساعداته في مكتب الادعاء. وشائعات الاغتصاب، التي انتشرت في الصحافة العالمية، جاءت في إطار الضغوط التي يتعرض لها كريم خان منذ أن كشف عن نيته، في شهر مارس (آذار) من العام الماضي، للأميركيين والفرنسيين والبريطانيين، طلب ملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه (في ذلك الحين) يوآف غالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حرب إسرائيل على غزة، بالتوازي مع تهم مماثلة بحق قادة من «حماس».
بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت اللذان صدرت بحقهما مذكرتَي توقيف من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية حرب غزة (رويترز)
ومنذ ذلك التاريخ، يعيش رجل القانون، البريطاني الجنسية، الذي يرأس مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2021، كابوساً حقيقياً، إلى درجة أن الضغوط التي تعرض لها شخصياً، وتلك التي تستهدف المحكمة، دفعت به، في بداية مايو (أيار) الماضي، إلى أخذ إجازة «مؤقتة» من مهامه في انتظار أن ينتهي التحقيق ويبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
مصير المدعي العام للمحكمة الجنائية
منذ أن ظهرت بداية المزاعم بحقه، حرص كريم خان على نفيها كلياً، عادّاً أن غرضها تلويث سمعته وثنيه عن الطلب من قضاة المحكمة إصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو وغالانت. بيد أن الضغوط متعددة الأشكال لم تردعه؛ إذ طلب رسمياً يوم 20 مايو من قضاة المحكمة إصدار مذكرات التوقيف. بيد أن الهيئة القضائية تمهلت طويلاً بعكس ما كانت الحال عند طلب مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وأخيراً، بعد 6 أشهر بالتمام والكمال، صدرت مذكرتا التوقيف ضد نتنياهو وغالانت رغم الضغوط الشديدة التي مورست على القضاة الأربعة، الذين أنيطت بهم مهمة الفصل في طلب المدعي العام.
اليوم، يبدو مصير كريم خان مرهوناً بما سيصدر عن نيويورك، وتحديداً عن 3 قضاة من «مكتب خدمات الرقابة الداخلية»، (أميركي وأوروبي وكاريبي) يعود إليهم النظر في ما إذا كان كريم خان قد ارتكب «خطأ جسيماً» في أداء وظيفته. وإذا قرر الثلاثة أن الأخير فعل «الخطأ الجسيم»، (كإساءة استخدام السلطة، والتحرش الجنسي، أو الاغتصاب)، فإن قرار عزله يعود عندها إلى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية. وفي حال توافر أغلبية مطلقة (النصف+1) لعزله، فإن كريم خان سيفقد منصبه.
وثمة معلومات متداولة في باريس تفيد بأن الاتصالات بدأت في لاهاي، مقر المحكمة، للنظر في اختيار بديل له. ووفق ما كتبته صحيفة «لوموند» الفرنسية المستقلة، فإن الغربيين «يفضلون اختيار امرأة للحلول محل كريم خان ومن دولة غير قوية»، (بمعنى ليست نافذة وذات تأثير)، والغرض من ذلك سعيهم إلى «التمتع بهامش أكبر من المناورات من أجل الضغط لسحب مذكرتي التوقيف» المشار إليهما.
اقرأ ايضا: رضّع يتقاسمون الحاضنات… وغزة على أعتاب كارثة صحية مع نفاد الوقود
تهديدات وضغوط بالجملة
إذا تحقق السيناريو الأسوأ، فإن كريم خان يكون قد سقط ضحية الضغوط التي مارستها إسرائيل والولايات المتحدة (كلتاهما ليست عضواً في المحكمة) لإزاحته؛ لأنه تجرأ على طلب توقيف نتنياهو وغالانت. لكن الضغوط لم تصدر عنهما فقط، فقد كشف تحقيق من موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، نشر مؤخراً، عن أن كريم خان تعرض لتهديدات مباشرة ولضغوط سياسية من إسرائيل والولايات المتحدة وكثير من الدول الغربية؛ منها بريطانيا وألمانيا، وأيضاً من فرنسا، فضلاً عن حملة إعلامية ممنهجة عن علاقته بإحدى موظفات مكتبه. ووفق الموقع، فإن نيكولاس كوفمان (وهو محام بريطاني – إسرائيلي وصديق قديم لكريم خان) حذره منذ مايو (أي قبل أيام قليلة من إصدار توصيته لقضاة المحكمة بإصدار قرار توقيف نتنياهو وغالانت) بأنه سيتم «تدميره» في حال لم يسحب طلبه. وتبع ذلك اتصال من ديفيد كاميرون، وكان وقتها وزيراً للخارجية البريطانية، نبهه فيه إلى أن لندن ستقطع مساهمتها المالية في ميزانية المحكمة، لا بل ستنسحب منها في حال دعا كريم خان إلى توقيف نتنياهو وغالانت، وهو الأمر الذي وصفه بـ«القنبلة الهيدروجينية». وبعد أيام قليلة، وجه 12 سيناتوراً أميركياً من الجمهوريين، بينهم وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، رسالة إلى كريم خان جاء فيها: «إذا استهدفت إسرائيل، فنحن سوف نستهدفك». ووفق معلومات الموقع المشار إليه، فإن كريم خان تلقى معلومات في لاهاي مفادها بأن «الموساد قد يستهدفه».
مقر المحكمة الجنائية الدولية (رويترز)
«تسييس» المحكمة الجنائية
ليس سراً أنه قبل أن ينتشر خبر توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، ضد نتنياهو وغالانت، اتصل نتنياهو بالقادة الغربيين وطلب منهم «فعل كل شيء» لمنع كريم خان من الإقدام على خطوته. وأفادت «لوموند» بأنه خلال اجتماع قادة «مجموعة السبع» في إيطاليا بمنتصف يونيو (حزيران) 2024، تشاور هؤلاء بشأن الطريقة الأشد نجاعة لتعطيل عمل المدعي العام. وعدّ الطرف الألماني أن المخرج يكمن في تفعيل «آلية التكامل» التي تمنع المحكمة الدولية من النظر في قضية إذا كانت المحاكم الوطنية (المحلية) تفعل ذلك. أما فرنسا، فقد شددت على «حصانة» نتنياهو بصفته رئيس وزراء راهناً، فيما رأت بريطانيا أن إحالة المحكمة تتعارض مع «اتفاقيات أوسلو». كذلك، سعى وزير الخارجية الأميركي السابق، أنتوني بلينكن، لتفكيك هذه «القنبلة» من خلال إقناع المحكمة بترك المسألة بيد القضاء الإسرائيلي، كما ضغط هو وجيك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي، على كريم خان بأنه «يضر بجهود السلام»، غير الموجودة أصلاً، ويعرض حياة الرهائن للخطر.
مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، تضاعفت الضغوط الأميركية. وكانت باكورتها، بعد شهر واحد، فرض عقوبات على كريم خان شملت تجميد حساباته المصرفية في الولايات المتحدة ومنعه من دخولها أو إجراء أي معاملات مالية معها. ويوم 5 يونيو، خطت واشنطن خطوة إضافية عبر فرض عقوبات على 4 قضاة من المحكمة. وكتب ماركو روبيو، وزير الخارجية، في بيان رسمي، أن الأربعة «شاركوا بشكل مباشر في إجراءات باطلة ولا أساس لها، تستهدف الولايات المتحدة أو حليفتنا المقربة إسرائيل». ووفق ماركو روبيو، فإن المحكمة الجنائية «أصبحت مسيّسة، وتدّعي زوراً امتلاكها سلطة مطلقة للتحقيق وملاحقة ومحاكمة مواطني الولايات المتحدة وحلفائنا»، مضيفاً أن سلوكها «انتهاك خطير للسيادة والأمن القومي للولايات المتحدة والدول الحليفة، بما فيها إسرائيل». وهاجم نتنياهو المحكمة عشرات المرات، عادّاً إياها «معادية للسامية وفاسدة». وأشار تقرير من المخابرات الهولندية، وفق صحيفة «لوموند»، إلى تصاعد تهديدات إسرائيل والولايات المتحدة ضد المحكمة التي مقرها لاهاي، والتي أصبحت «هدفاً جذّاباً للتجسس والتأثير التدميري من طرف عدد كبير من البلدان؛ لأن مواطنيهما قد يُحاكمون فيها». ورداً على المحكمة، استقبلت واشنطن نتنياهو مرتين، وكذلك استقبلته بودابست، وطمأنه المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأنه يستطيع القدوم إلى ألمانيا دون وجل. أما الرئيس الفرنسي، فقد ترك أمر السماح له بالدخول إلى فرنسا من عدمه إلى المحاكم.
يذكر أن شرعة المحكمة تنص على «إلزامية» الدول المعنية بتنفيذ ما يصدر عنها.
يبقى أمران: الأول؛ أن المرأة التي زعم أنها كانت ضحية كريم خان لم تقدم دعوى ضده في أي محكمة، كما رفضت الشهادة أمام هيئة التحقيق الداخلية للمحكمة. والثاني؛ أن جزءاً كبيراً من صعوبات الأخير تعود إلى مستشاره الأميركي، توماس لينش، الذي ناور للإيقاع به، وقال علناً، أكثر من مرة، إن فلسطين «ليست دولة، وإسرائيل ليست طرفاً في المحكمة، والمكتب ينبغي ألا يحقق في ذلك».