دخلت متحف قسم الآثار الخاص بجامعة الملك سعود مجموعة من القطع البرونزية تحمل طابعاً يونانياً كلاسيكياً صرفاً، مصدرها موقع قرية الفاو الأثري في جنوب شرق محافظة وادي الدواسر، التابعة لمنطقة الرياض. تحوي هذه المجموعة قطعة صيغت على شكل مقبض آنية، يزيّن كل طرف من طرفيه وجه أنثوي قنوط، تحيط به خصل كثيفة من الشعر المتموّج. يتميّز هذا الوجه المزدوج بملامحه الحادة والساخطة، ويمثّل في الواقع ميدوزا، المرأة التي تمسخ نظرتها الرائي حَجَراً، حسب رواية من ميراث الأساطير اليونانية، تردّد صداها في العصر الروماني المبكر، وبلغ الجزيرة العربية.
طول هذا المقبض 17 سنتمتراً وعرضه 16 سنتمتراً، وهو على شكل حدوة تزيّنها ثلاثة خواتم تنعقد في وسط القسم الأعلى منها، يفصل بينها خاتمان نحيلان أصغر حجماً، حُدّدا بشكل جلي. تتدلّى من هذه الحدوة كتلتان دائريتان بنقش تصويري آدمي، يحتل كلّ منهما طرفاً من طرفيها. تبدو هاتان الكتلتان أشبه بمنحوتتين تصويريتين أنجزنا بحرفيّة عالية، وتمثّلان وجهين متشابهين تتماثل ملامحهما إلى حدّ التطابق. وهذه الملامح أنثوية، وتتبنّى المثال اليوناني الكلاسيكي الصرف بروافده المتعدّدة. الوجنتان مكتنزتان، والأنف معقوف وبارز، يتميّز بتجويفين عريضين في الأسفل يمثّلان المنخرين. الفم مطبق، ويتكون من شفتين عريضتين، يفصل بينهما شقّ مقوّس. الذقن ناتئ، وتعلوه غمازة مجوّفة تستقر تحت شفة الثغر السفلى. تحت هذه الغمازة يظهر تكوير بارز بين أسفل الذقن وأعلى العنق، وفقاً لما يُعرف في قاموس الفن الكلاسيكي باسم «الذقن المزدوج». الجبين قصير ومقطّب، ويحدّه في الوسط حاجبان مقوّسان ملتصقان يعلوان عينين تشكّلان مركز الثقل في هذا الوجه، وهما واسعتان ومفتوحتان، ويتوسّط كلا منهما بؤبؤ مجوّف حدّد بدقّة. يغلب على هاتين العينين طابع تعبيري حاد، يمزج بين القنوط والسخط والحدّة، وينعكس هذا الطابع على مجمل القالب المنحوت الخاص بهذه القطعة البرونزية. تحيط بهذا الوجه الزاجر خصل عريضة من الشعر الكثيف، تشابه في تموجها المنفلت الأفاعي الملتوية. وتلتفّ هذه الخصل حول الجبين والوجنتين، وتحجبان الأذنين بشكل كامل. يتراءى طرف العنق الأعلى وسط هذه الغابة المتوحّشة، ويلتفّ من حوله شريط ينعقد من حوله في الوسط، يتدلّى منه طرفاه بشكل متجانس.
تتناقض هذه النظرة الحادة في الظاهر مع نضارة الوجه الأنثوي، غير أن هذا التناقض يجسّد في الواقع الصفة التي عُرفت بها ميدوزا في العالم اليوناني القديم على مرّ العصور، وميدوزا هي «الحامية»، كما يقول اسمها اليوناني، وهي واحدة من ثلاث أخوات عُرفن باسم الغورغونات، وُلدن ونشأن في سفر التكوين الأول، حسب الأساطير، أي في الزمن الذي سبق بروز أسياد جبل الأولمب المقدّس، وهن «المرعبات» كما يشير اسمهنّ الجامع، وشعورهنّ من الثعابين، ونظراتهنّ تمسخ كل من ينظر إليهنّ حجراً.
اقرأ ايضا: صفقة الموسم… رونالدو وخيسوس يحولان بوصلة فيليكس نحو النصر
يذكر الشاعر الغنائي بينداروس الغورغونات في القرن الخامس قبل الميلاد، ويصف الأفاعي المخيفة المنعقدة حول رؤوسهن. والغورغونات ثلاث أخوات، سيثنو، وأيرلن، وميدوزا «ذات الخدّين الجميلين»، كما يقول الشاعر. تغيّرت تفاصيل قصة ميدوزا وتبدّلت بين عصر وآخر، والثابت أن البطل بيرسيوس، ابن سيد الآلهة زيوس من الأميرة داناي، ابنة أكريسيوس ملك أرغوس، واجه الموت لكي يقضي عليها، وقطع رأسها بعد أن استخدم درعه كمرآة كي ينظر إلى صورتها المعكوسة دون أن يحدّق فيها. حمل البطل الخارق رأس ميدوزا، ووضعه في مخلاة، واستخدمه سلاحاً في صد أعدائه والتغلب عليهم، ثم أهداه إلى المعبودة أثينا، فثبّتته على درعها، واشتهرت بهذا «الدرع الرهيب الذي يرفرف عليه الرعب مثل الإكليل»، حامل الرأس «العملاق المتجهم، المتشكّل من الخوف والذعر»، كما وصفه هوميروس في الكتاب الخامس من «الإلياذة».
تعدّدت وجوه ميدوزا في عالم الفن بحقوله المتعددة، وأقدم ما وصلنا منها يعود إلى القرن الخامس الميلادي. تحوّل هذا الوجه سريعاً إلى طوطم يجسّد الوجه الرادع الحامي، وانتشر في العالم الروماني بشكل واسع، وبلغ مملكة الأنباط في شمال شبه الجزيرة العربية، حيث تعددّت شواهده في عاصمتها البتراء. خارج البتراء، يظهر هذا الوجه في موقع الحِجْر التابع لمحافظة العُلا في منطقة المدينة المنورة. يحوي هذا الموقع سلسلة من الحجرات الجنائزية المنحوتة في الصخور، تعود إلى مملكة الأنباط، وتتمثل بمجموعة من 36 مقبرة تتميز بحلل زخرفية منقوشة. يحضر وجه ميدوزا في صيغة مفردة على واجهات أربع من المقابر، ويتميّز هذا الوجه بتأليفه غير المعهود، إذ يظهر مع ثعبانين ملتويين يحيطان به من الجهتين، وفقاً لنسق فريد قلّما نجد ما يُشبهه في القطع الفنية العديدة التي مثّلت ميدوزا بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الميلادي الأوّل.
في المقابل، يتبنّى مقبض قرية الفاو البرونزي الجمالية الكلاسيكية الصرفة، ويشابه في تأليفه من حيث الأسلوب شواهد البتراء الحجرية. يعود هذا المقبض على الأرجح إلى القرنين الأولين من العصر الميلادي، وهو من مجموعة القطع البرونزية المنحوتة الكلاسيكية التي خرجت كلّها من موقع قرية الفاو، وتبدو اليوم فريدة من نوعها في الميراث الأثري الخاص بالمملكة العربية السعودية.