في مشهد يعكس تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليابان، أحدثت الهزيمة الانتخابية التي تعرض لها الائتلاف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا هزة متعددة الأوجه في الأسواق المالية، وأثارت قلق وكالات التصنيف الائتماني، في وقت يتصاعد فيه الجدل حول خفض ضريبة الاستهلاك وتوسيع الإنفاق العام لمواجهة الغلاء وضغوط المعيشة.
فقد خسر معسكر إيشيبا أغلبيته في مجلس الشيوخ، بعد أن فقد سابقاً السيطرة على مجلس النواب الأكثر نفوذاً، ما يُضعف قدرته على تمرير التشريعات، ويُجبره على التعاون مع أحزاب المعارضة التي تدعو إلى تخفيضات ضريبية واسعة وإنفاق مالي أكبر.
وفي حين تعهد إيشيبا بالبقاء في منصبه، فإن الاضطراب السياسي الناجم عن هذه التطورات دفع الأسواق والمستثمرين إلى حالة من الترقب المشوب بالقلق.
وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني كانت أولى الجهات الدولية التي عبرت عن قلقها، إذ أعلنت أن أي خفض في الضريبة العامة للاستهلاك البالغة حالياً 10 في المائة (و8 في المائة بالنسبة للمواد الغذائية) قد يؤثر على التصنيف السيادي لليابان، اعتماداً على «نطاق هذا الخفض، وحجمه، واستمراريته».
وصرّح كريستيان دي غوزمان، نائب الرئيس الأول في الوكالة، بأن الوضع السياسي الراهن قد يزيد من احتمالات التوسع المالي، محذراً من أن هذا قد يؤدي إلى تدهور كبير في المالية العامة إذا لم يكن مدعوماً بإجراءات موازنة طويلة الأجل.
وتحافظ اليابان على تصنيف A1 منذ عام 2014، إلا أن تقارير سابقة لوكالة «موديز» حذرت من احتمال خفض هذا التصنيف إذا توسع العجز المالي بشكل كبير ومستدام، في بلد يُعد الأعلى ديوناً بين الاقتصادات المتقدمة بنسبة دين تقارب 250 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
الأسواق المالية تتفاعل بحذر
وقد انعكس القلق من التدهور المالي المحتمل على أداء الأسواق اليابانية، حيث أغلق مؤشر «نيكي» منخفضاً بنسبة 0.11 في المائة عند 39,774.92 نقطة، بعدما تجاوز في وقت سابق خلال الجلسة مستوى 40,000 نقطة. ويُعزى هذا الارتفاع المؤقت إلى عمليات تغطية مراكز البيع من المستثمرين الذين اعتقدوا أن الأسهم ستتراجع فوراً بعد نتائج الانتخابات.
قد يهمك أيضًا: بورصات الخليج تتعافى من الخسائر المبكرة رغم تهديدات ترمب التجارية
لكن سرعان ما تبدد التفاؤل، بحسب شويتشي أريساوا من «إيواي كوزمو للأوراق المالية»، إذ تحوّل تركيز السوق إلى محادثات التجارة مع الولايات المتحدة والمخاطر المحتملة من فرض رسوم جمركية جديدة.
ومن المتوقع أن تظل الأسواق حذرة قبل الموعد النهائي المقرر في الأول من أغسطس (آب) لتفادي فرض تعريفة أميركية بنسبة 25 في المائة على الواردات اليابانية.
وفي موازاة ذلك، ارتفعت سندات الحكومة اليابانية مع تقييم المستثمرين لتداعيات الانتخابات، حيث صعدت العقود الآجلة لسندات العشر سنوات إلى 138.55 ين، وانخفض العائد إلى 1.51 في المائة بعد ارتفاعه سابقاً إلى أعلى مستوى له منذ عام 2008 عند 1.595 في المائة. كما تراجع عائد السندات طويلة الأجل، بينما استقرت عائدات السندات القصيرة نسبياً.
ويرى دايسوكي أونو، كبير الاستراتيجيين في «سوميتومو ميتسوي»، أن نتائج الانتخابات تعكس رفض الناخبين لتوزيعات نقدية غير مستدامة، مما يجعل خفض ضريبة الاستهلاك خياراً أكثر ترجيحاً لدى المعارضة، رغم بقاء تفاصيله غير واضحة. وقد تعزز هذه التوجهات مخاطر اتساع العجز المالي إذا لم تقترن بآليات تمويل واضحة، وهو ما يُنذر برد فعل سلبي من وكالات التصنيف والأسواق العالمية.
الحكومة بين مطرقة الرعاية وسندان التصنيف
وبينما تُطالب المعارضة بخفض الضرائب لرفع القدرة الشرائية للأسر، يُحذر رئيس الوزراء ووزير المالية من أن مثل هذه الخطوة قد تقوض قدرة الدولة على تمويل نظام الرعاية الاجتماعية المتضخم في بلد يشهد تسارعاً كبيراً في وتيرة الشيخوخة.
ويبدو أن الحكومة تُفضّل مقاربات أكثر تحفظاً، مثل التوزيعات النقدية الممولة من الضرائب الحالية، رغم أنها تواجه ضغوطاً سياسية واسعة لتقديم تنازلات. وفي ظل هذه الأوضاع، يُتوقع أن تعكف الحكومة على إعداد ميزانية إضافية في الخريف، ما قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوسع المالي.
وتشير تطورات الأيام الأخيرة في اليابان إلى أن البلاد تدخل مرحلة دقيقة من التوازن بين متطلبات النمو والعدالة الاجتماعية من جهة، والحفاظ على الاستقرار المالي والائتماني من جهة أخرى. ومع تصاعد التحديات السياسية والاقتصادية، يبدو أن الأسواق والجهات الدولية، وعلى رأسها وكالات التصنيف، ستواصل مراقبة الخطوات القادمة عن كثب، في انتظار قرارات قد تُحدد شكل الاقتصاد الياباني خلال السنوات المقبلة.