لا تُظهر فحوصات الدماغ التقليدية سوى جزء من الصورة. فهي لا تستطيع التقاط كيفية تواصل مناطق الدماغ المختلفة بشكل كامل، وهذا هو عامل أساسي في الكشف المبكر عن الأمراض العصبية.
يعمل الدكتور راهول بيسواس، طبيب الأعصاب في جامعة كاليفورنيا-سان فرنسيسكو، على تغيير ذلك باستخدام أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي ترسم خرائط لهذه الروابط العصبية الخفية.
يكشف بحثه الرائد كيف يُعطّل مرض ألزهايمر تواصل الدماغ في مناطق غير متوقعة، مُتحدياً بذلك الافتراضات القديمة حول هذا المرض. والآن، من خلال شركته «كانيفا للاستشارات»، يُركز الدكتور بيسواس على تحويل هذا العلم إلى أدوات تشخيص عملية يُمكنها تحديد اضطرابات الدماغ قبل ظهور أعراضها بوقت طويل.
تحدثت «فاست كومباني» مع بيسواس حول كيفية إحداث الذكاء الاصطناعي ثورة في صحة الدماغ، بدءاً من الكشف المبكر عن الأمراض، ووصولاً إلى العلاجات المُخصصة، والتقنيات اليومية. تم تعديل المحادثة لاختصارها، وتوضيحها.
* كيف تكشف نماذج الذكاء الاصطناعي عن رؤى جديدة حول الدماغ لم تكن ممكنة باستخدام أساليب علم الأعصاب التقليدية؟
-يمنحنا الذكاء الاصطناعي رؤية أوضح بكثير لكيفية عمل الدماغ، ليس فقط مكان حدوث النشاط، بل أيضاً كيفية تفاعل المناطق، وتأثيرها على بعضها البعض، وتغيرها بمرور الوقت.
غالباً ما درس علم الأعصاب التقليدي مناطق الدماغ بمعزل عن بعضها البعض. لكن الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل مجموعات بيانات ضخمة ومعقدة -مثل تسجيلات أو مسوحات الدماغ الكاملة- وكشف أنماط دقيقة في جميع أنحاء النظام. على سبيل المثال، يمكنه اكتشاف شبكة من المناطق التي تتعاون باستمرار أثناء تكوين الذاكرة، والتي قد تُغفل في التحليلات التقليدية. باختصار، يساعدنا الذكاء الاصطناعي على الانتقال من فهم اللقطات إلى فهم الأنظمة، كاشفاً عن العلاقات الخفية، وعلامات الإنذار المبكر للخلل الوظيفي.
* ما التطبيقات الحالية الواعدة للذكاء الاصطناعي في مجال صحة الدماغ، مثل الكشف المبكر عن الأمراض التنكسية العصبية أو استراتيجيات العلاج الشخصية؟
-من الاستخدامات المثيرة للذكاء الاصطناعي الكشف المبكر عن اضطرابات الدماغ. يمكن للذكاء الاصطناعي فحص مسوحات الدماغ، أو حتى السجلات الصحية الروتينية لاكتشاف العلامات الدقيقة للمرض قبل ظهور الأعراض بوقت طويل.
+رصد مرض ألزهايمر. على سبيل المثال، اكتشف نظام تعلم آلي مرض ألزهايمر بدقة تزيد عن 90 في المائة في فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي، أي قبل سنوات من التشخيص التقليدي. إن اكتشاف هذه التغيرات مبكراً يعني أن الأطباء يمكنهم التدخل مبكراً.
+العلاج الشخصي. ومن المجالات الواعدة الأخرى العلاج الشخصي. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تصميم علاج يناسب دماغ كل فرد. من خلال تحليل البيانات العصبية والوراثية الفريدة لكل شخص، قد تتنبأ خوارزمية بدواء الاكتئاب الأنسب له، مما يقلل من استخدام مبدأ التجربة والخطأ المعتاد في إيجاد علاج فعال.
* ماذا ستقدم مراقبة الدماغ هذه عملياً للمرضى؟
-لنأخذ، على سبيل المثال، نهج نمذجة شبكة الدماغ. باعتبار أنه جزء من زيارته، يخضع المريض لفحص التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وتقوم التطبيقات الذكية بإدخاله مباشرة في الخوارزمية للحصول على نموذج الشبكة. ويكمن جمال هذا في أنك تحصل على شبكة دماغ المريض نفسه مباشرةً من بياناته. لذا يمكنك رؤية كيف تتغير شبكة الدماغ في كل زيارة.
إنها مخصصة لذلك المريض. ومع مرور الوقت، يمكنك حقاً ملاحظة كيف تتغير اتصالات الشبكة المختلفة. هل تقترب أعراضه من أعراض مرض ألزهايمر أو غيره من الأمراض العصبية؟ أم أنه بخير؟ وإذا كانت الأعراض على مستوى أي مرض، فسيتم التنبيه.
وكما في حالة لو أجرينا فحص دم في كل زيارة، فإذا تجاوز مستوى أحد مؤشرات الدم الحد الطبيعي، فسترى علامة حمراء تُشير إلى «انتباه! هذا أعلى من المعدل الطبيعي». لذا، قد يحدث شيء مشابه لشبكات الدماغ، لأن الشبكات تُعتبر مؤشرات حيوية فعّالة للتنبؤ بالأمراض.
* كيف يُمكن للتحليلات التنبئية القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات القابلة للارتداء أن تُغير طريقة مراقبتنا لصحة الدماغ والحفاظ عليها في حياتنا اليومية؟
-سيجعل الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التقنيات القابلة للارتداء، مراقبة صحة الدماغ مستمرة، واستباقية. تتتبع هواتفنا الذكية وساعاتنا الذكية بالفعل النوم، ومعدل ضربات القلب، والحركة. ومن خلال إضافة تحليلات الذكاء الاصطناعي، يُمكن لهذه الأجهزة أيضاً مراقبة التغيرات الطفيفة التي تُشير إلى التدهور المعرفي، أو مشكلات الصحة العقلية.
على سبيل المثال، قد يُلاحظ أحد التطبيقات تباطؤ سرعة كتابتك، أو تغير أنماط نومك، ويُشير إلى ذلك على أنه إنذار مُبكر مُحتمل. في الأساس، ستصبح فحوصات صحة الدماغ جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية -أشبه بـ«ضوء فحص المحرك» لدماغك- بدلاً من أن تكون أمراً يقتصر على عيادة الطبيب.
* كيف يختلف نهجك عن تحليل شبكات الدماغ التقليدي؟
-تقول الطرق الساذجة إن منطقتين دماغيتين مترابطتان، وبالتالي تعتبر ذلك صلة. ولكن ربما تأثرت هاتان المنطقتان الدماغيتان بمنطقة دماغية رئيسة واحدة. منطقة دماغية واحدة «ج» كانت تؤثر على كلٍّ من «أ» و«ب» معاً. لذا بدا أن «أ» و«ب» متصلتان، ولكن كان الأمر أشبه باتصال زائف. لذا، تحاول الطرق السببية أن تكون أكثر تحديداً، إذ إنها تحاول في الواقع القول: «مهلاً، منطقتا الدماغ «أ» و«ب» لم تكونا متصلتين. منطقة الدماغ «ج» هي التي كانت تؤثر على «أ» و«ب» في الوقت نفسه».
قد يهمك أيضًا: 6 وصفات سهلة لإنقاص الوزن باستخدام بذور الشيا
* أنت تُنشئ نماذج شبكية سببية للدماغ. ما الاكتشافات المذهلة التي كشف عنها هذا النهج حول كيفية تدفق المعلومات عبر الدوائر العصبية؟
-باستخدام النماذج السببية (التي تُظهر جهة ما تؤثر على جهة ما أخرى في الدماغ)، اكتشفنا بعض الأمور غير المتوقعة حول كيفية انتقال الإشارات. في مرض ألزهايمر، على سبيل المثال، لاحظنا انقطاعاً واسع النطاق في الاتصالات عبر مناطق متعددة -وليس فقط مراكز الذاكرة التي يتوقعها الناس. كانت الروابط عبر أجزاء من الفصين الجبهي والصدغي، وحتى المخيخ، أضعف بكثير لدى مرضى ألزهايمر. كان هذا مفاجئاً، لأن المخيخ لا يرتبط عادةً بمرض ألزهايمر، ويشير إلى أن المرض يُعطّل شبكات أوسع مما كنا ندرك. لاحظنا أيضاً أن الدماغ يحاول إعادة توجيه الإشارات عند ضعف مسار رئيس، مما يُشير إلى مرونة ذاتية، حيث تحاول المسارات الثانوية تعويض النقص.
* ما الآثار العملية لهذه الاكتشافات الآن أو في المستقبل القريب؟
-لهذه النتائج آثار عملية واضحة. قد يكون أحدها تحسين التشخيص: إذا علمنا أن شبكة معينة تضعف عادةً في مرحلة مبكرة من مرض ألزهايمر، فقد يستخدم الأطباء ذلك باعتباره علامة حيوية. يمكن لمسح الدماغ التحقق من قوة تلك الشبكة لدى شخص يعاني من أعراض خفيفة للمساعدة في تشخيص الحالة، أو حتى التنبؤ بها في وقت أقرب.
ومن الآثار الأخرى العلاج المُستهدف. من خلال تحديد محاور أو مسارات الدماغ التي تتعطل، يمكن للعلاجات التركيز على تلك المحاور، أو المسارات. وعلى سبيل المثال، إجراء تحفيز دماغي موجه، أو تمرين إدراكي لتقوية دائرة عصبية محددة. باختصار، يتيح لنا فهم هذه الشبكات السببية البدء في معالجة اضطرابات الشبكة الجذرية، وليس فقط الأعراض السطحية.
* لقد طبقتَ تحليلك لشبكة الدماغ على مرض ألزهايمر. ما الآثار السريرية المحتملة التي تتوقعها من هذا العمل خلال السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة؟
-في
السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، أتوقع بعض الآثار السريرية المهمة:
+ يمكن استخدام علامات شبكة الدماغ للكشف عن مرض ألزهايمر في وقت أبكر بكثير. قد يكشف فحص مُحلل بالذكاء الاصطناعي عن تعطل الشبكة المميز للمرض قبل سنوات من ظهور الأعراض الملحوظة، مما يُتيح التدخل المبكر.
+قد يراقب الأطباء أيضاً اتصال الدماغ لدى المرضى بمرور الوقت باعتباره علامة حيوية جديدة. إذا كان العلاج فعالاً، فسنرى تباطؤاً في تراجع شبكة المريض أو استقراراً. يمكن أن تساعد هذه الملاحظات في تعديل العلاجات بسرعة.
+ وأخيراً، قد تُصمّم العلاجات لتناسب نقاط ضعف الشبكة المحددة لدى كل شخص. على سبيل المثال، إذا كانت الشبكة الجبهية لشخص ما هي الأكثر تأثراً، فيمكن للأطباء تركيز الأدوية أو التمارين المعرفية على تقوية وظيفة تلك المنطقة. هذا النهج الموجه بالشبكة يعني رعاية أكثر تخصيصاً، وفعالية.
* بعيداً عن الطب، كيف يمكن لأبحاثك حول شبكات الدماغ السببية أن تؤثر على التكنولوجيا التي نستخدمها يومياً؟
-ما نتعلمه عن شبكات الدماغ يُمكن أن يُلهم مباشرةً تقنيات يومية أكثر ذكاءً. أحد الأمثلة على ذلك هو برمجيات الذكاء الاصطناعي: من خلال ملاحظة كيفية تحول أنماط التأثير بين مناطق الدماغ عبر الحالات العقلية المختلفة -وهو أمر تُساعد نماذج شبكتنا السببية في الكشف عنه- يُمكن للمطورين استلهام أفكارهم من مساعدين رقميين يتكيفون بشكل أفضل مع السياقات، أو المهام المتغيرة، تماماً كما يفعل الدماغ.
مجال آخر هو واجهات الدماغ والحاسوب -وهي تقنية تُتيح للمستخدمين التحكم في الأجهزة من خلال الإشارات العصبية. من خلال فهم كيفية تأثير مناطق الدماغ سببياً على بعضها البعض أثناء مهام مُحددة -رؤى من نماذج شبكتنا السببية- يُمكن للمهندسين تصميم واجهات أكثر استجابة تتوافق مع التدفق الطبيعي للمعلومات في الدماغ. باختصار، تُوفر دراسة شبكات الدماغ لمصممي التكنولوجيا مُخططاً لإنشاء أنظمة تُشبه الدماغ، وأكثر كفاءةً وسهولةً في الاستخدام.
* ما المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى الناس حول كيفية معالجة الدماغ للمعلومات؟ وكيف يُعالج بحثك هذه المفاهيم؟
-يعتقد الكثيرون أن الدماغ يعمل مثل جهاز كمبيوتر بسيط. تدخل المُدخلات، وتُجرى المعالجة في مكان واحد، ثم تخرج المُخرجات. لكن في الواقع، يُعدّ الدماغ شبكة ديناميكية من المناطق المترابطة التي تؤثر على بعضها البعض باستمرار. يُظهر بحثنا أنه حتى القرار البسيط يُمكن أن يشمل مناطق متعددة في سلاسل سببية مُعقدة. لا يتعلق الأمر بمنطقة دماغية واحدة تؤدي وظيفة واحدة، بل يتعلق بتكيف الشبكات، وإعادة توجيهها، وتفاعلها بطرق تعتمد على السياق.
* كيف يُمكّن الذكاء الاصطناعي للبحث في أنواع جديدة من الأسئلة العلمية ومناهج البحث في علم الأعصاب؟ والتي كانت مستحيلة أو غير عملية سابقاً؟
-مع الأدوات التقليدية، اقتصرنا على دراسة التأثيرات المحلية -مثل كيفية استجابة منطقة دماغية واحدة لمُحفز ما. لكن الذكاء الاصطناعي يُتيح لنا طرح أسئلة أوسع نطاقاً على مستوى النظام: كيف تنتشر الإشارات عبر الدماغ بمرور الوقت؟ كيف تُعيد الشبكات تنظيم نفسها في حالة المرض؟ أو تحت الضغط؟ كان من الصعب اختبار هذه الأسئلة سابقاً بسبب تعقيد البيانات، ولكن الآن مع الذكاء الاصطناعي، وخاصةً النمذجة السببية والحوسبة واسعة النطاق، يُمكننا تتبع هذه الديناميكيات، واختبارها بدقة.
* إذا كان بإمكانك تقديم نصيحة لقادة الرعاية الصحية أو صانعي السياسات بشأن أولوية واحدة لضمان تحقيق الذكاء الاصطناعي لوعده بصحة الدماغ، فماذا ستكون؟
– بناء قاعدة متينة من البيانات، والتحقق منها. هذا يعني تشجيع المشاركة الآمنة لبيانات صحة الدماغ عالية الجودة بين المؤسسات، بحيث يمكن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على معلومات متنوعة وتمثيلية (للأفراد). وهذا يعني أيضاً إجراء اختبارات دقيقة لأدوات الذكاء الاصطناعي -مثل التجارب السريرية للخوارزميات- قبل استخدامها في العيادات. مع بيانات أكثر ثراءً، وتحقق دقيق، يمكننا ضمان أن الذكاء الاصطناعي يُحقق تحسينات آمنة وفعالة في صحة الدماغ، وليس مجرد دعاية.
* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»