«Limerence» هي كلمة لن تجدها في أغلب قواميس اللغة الإنجليزية الصادرة قبل خمسين عاماً. وأغلب الظن أنك – مثلي قبل أن تقرأ الكتاب الذي أقدمه هنا – لم تكن تعرف معناها. إنها كلمة حديثة العهد نسبياً، دخلت اللغة الإنجليزية عام 1979 حين نحتتها عالمة نفس تدعى البروفسورة دوروثي تنوف Dorothy Tennov (توفيت في 2007) في كتاب لها عنوانه «الحب والافتتان الرومانسي: خبرة أن تكون في حالة حب». فالكلمة تعني: الافتتان الرومانسي بشخص آخر، يغدو محور وجودنا، والشغل الشاغل لأفكارنا، والمغناطيس الذي تنجذب إليه قلوبنا وعقولنا.
هذا الافتتان الجارف موضوع كتاب صادر في هذا العام عنوانه «مضروب بعنف» Smitten (الناشر: واتكنز – لندن). والكتاب من تأليف توم بيلامي Tom Bellamy وهو طبيب أعصاب وأستاذ في جامعة نوتنغام البريطانية. وعنوان الكتاب «مضروب بعنف» يشير إلى هذا الافتتان الذي ينزل بصاحبه وكأنه خطفة برق أو صاعقة من السماء أو ضربة رعدية ماحقة تصيب الإنسان فتطرحه أرضاً.
ما طبيعة الافتتان الرومانسي؟ ما المراحل التي يمر بها؟ ما جذوره في كيمياء البدن وشبكة الأعصاب؟ أهو مرض عقلي أو إدمان غير صحي؟ ما صلته بالإطار الثقافي والاجتماعي الذي نعيش جميعاً داخله؟ ما دور وسائل التواصل الاجتماعي في تغذيته؟ هل يمكن أن يتحول إلى مجرد صداقة؟ وكيف نشفى منه ونتغلب عليه؟ أسئلة كثيرة يطرحها الكتاب في 281 صفحة محاولاً تقديم إجابات عنها، مفيداً، خلال ذلك، من اجتهادات فلاسفة وأدباء وعلماء تناولوا عاطفة الحب بالتشريح منذ القدم: أفلاطون في محاوراته، الشاعر اللاتيني أوفيد في كتابه «فن الهوى»، غوته صاحب رواية «آلام الشاب فرتر»، ستندال مؤلف كتاب «حول الحب»، ابن حزم مؤلف «طوق الحمامة» (عقد طه حسين في كتابه «ألوان» فصلاً في المقارنة بين الروائي الفرنسي والفقيه الأندلسي)، وكثيرون غيرهم.
الافتتان الرومانسي تغير في حالة الذهن يتميز بالارتفاع إلى درجة عالية من النشوة، ورغبة مستميتة في أن نجعل الآخر يبادلنا مشاعرنا، وميل إلى إضفاء صبغة مثالية على المحبوب وكأنه بلغ مرتبة الكمال.
ومن الخصائص الأخرى لهذا الافتتان: التفكير المستمر في المحبوب، توقف حالاتنا النفسية على موقفه منا إقبالاً أو عزوفاً، الانصراف عن أي حب آخر غيره، الانغماس في خيالات فانتازية عنه، الخجل أو القلق في محضره مما قد يتخذ شكل تغييرات جسمانية كالعرق أو التلعثم أو تسارع نبضات القلب، وجع القلب حين لا نكون على ثقة من شعوره نحونا، حدة الانفعال بحيث يتوارى كل شيء غيره في منطقة الظل، تأكيد الجوانب الإيجابية في شخصه وتجاهل الجوانب السلبية أو التهوين منها.
الافتتان إذن عاطفة لا إرادية تستحوذ على صاحبها، إنه بكلمة واحدة، «إدمان» لشخص آخر يغدو علة وجودنا ذاته.
واللغة التي يستخدمها العشاق تحفل عادة بأمثال هذه العبارات: «أنت تكملني»،«أنت الواحد الذي لا يوجد غيره في قلبي»، «لقد كان لقاؤنا قدراً مقدراً»، «ما من أحد غيرك قد أثار فيّ هذه المشاعر».
كيف صور الأدباء والفلاسفة هذه العاطفة؟ إن أفلاطون في القرن الرابع (ق. م) يورد أسطورة إغريقية قديمة مؤداها أن الآلهة خلقت في البدء إنساناً واحداً ولكنه انقسم نصفين. ومنذ ذلك الحين صار كل نصف يبحث مستميتاً عن نصفه الآخر.
وفي فترة أحدث وجدنا شكسبير في مسرحيته «روميو وجولييت» (1595) يصور عاشقين شابين شاء اقتران النجوم (كان ذلك عصر الإيمان بخرافات المنجمين) أن يعترض طريق حبهما فلم يعرفا الوصال إلا ليلة واحدة تقطعت بعدها بهما السبل. لقد كانا ينتميان إلى أسرتين إيطاليتين من مدينة فيرونا بينهما تاريخ من العداء والتنافس والثأر المتبادل. فروميو من أسرة مونتاجيو، وجولييت من أسرة كابيوليت. وتنتهي المسرحية نهاية مأساوية بانتحار العاشقين.
اقرأ ايضا: أحمد المالكي لـ «الشرق الأوسط» : الكتابة لأكثر من مطرب متعة
والشاعر الإيطالي دانتي في «الحياة الجديدة» (1290 – 1294) و«الكوميديا الإلهية» (1309 – 1320) يصور حبه لفتاة تدعى بياتريس كان قد رآها لأول مرة وهي طفلة. ثم فرقت بينهما السنين إلى أن التقى بها غادة ناضجة ملكت قلبه، وكأنه مجنون ليلى القائل:
تعلقت ليلى وهي بعد صغيرة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
ويضفي دانتي على حبه صبغة روحية من قبيل ما يدعوه علماء النفس بعد فرويد التسامي أو الإعلاء، فلا تعود محبوبته أنثى من لحم ودم، وإنما هي أشبه بكائن أثيري ملائكي يقود خطاه إلى الفردوس بعد أن قاده الشاعر اللاتيني فرجيل في دوائر الجحيم والمطهر.
وليس من النادر أن يقود الافتتان أصحابه إلى حافة الهاوية بل قاعها، كما في رواية ليو تولستوي «آنا كارنينا» (1875-1877)، ورواية غوستاف فلوبير «مدام بوفارى» (1857) حيث تؤدي الخيانة الزوجية إلى انتحار البطلتين: الأولى تحت عجلات قطار، والثانية بتناول الزرنيخ.
كيف يمكن للمرء أن يتغلب على الافتتان – هذه «العاصفة العصبية الكيميائية»؟ – إنما يكون ذلك بأن يتفحص المرء مشاعره ويعرف كيف بدأت، ويتحرر من عادة لقاء الطرف الآخر والاتصال به، ويصوغ لنفسه مشروع حياة بعيداً عنه. بدهي أن هذا ليس بالأمر اليسير- القول دائماً أسهل من الفعل – ولكنه ممكن متى توافرت الرغبة الصادقة في التحرر من إسار هذه العاطفة الجهنمية، والإرادة القوية لامتلاك زمام النفس.
ويظل الحب – هذه العاطفة الأبدية – لغزاً محيراً يستعصي على الأفهام ويخالف المنطق في كثير من الأحيان. لكن تقدم علوم الأعصاب والأعضاء والأبحاث على المخ – مسرح كل عاطفة – من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على فهم ذاته، ومواجهة رغباته، وبلوغ توازن صحي بين مطالب البدن والعقل والروح.