الإثنين, يوليو 28, 2025
الرئيسيةالوطن العربيالسعوديةما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل

ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل

في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، حيث تتقاطع خيوط السياسة بالتكنولوجيا، التأم العالم في قمة «كسب سباق الذكاء الاصطناعي» (Winning the AI Race). لكن ووسط الضجيج المعتاد لكواليس القمم الكبرى التي عرضت مناقشتها عبر الإنترنت، لم يكن للعلماء مجرد دور المُراقب أو المحلل، بل كانوا في طليعة المشهد.

في الجلسات المخصصة لما يُعرف بـ«الذكاء الاصطناعي + العلوم» (AI + Science)، بدا واضحاً أن العالم لم يعد يناقش متى سيؤثر الذكاء الاصطناعي في العلوم، بل كيف يعيد كتابتها من جديد. لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات خلف الشاشات، بل تحوّلت عقولاً مُساعدة تبتكر، وتقترح، وتتنبأ، وتُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمجهول.

كانت الجلسات العلمية أشبه بماكينات تفكير جماعي، تتسابق فيها المعادلات والنماذج اللغوية مع الكواشف الجزيئية والمجاهر الكونية. هناك، لم يكن الحاضر مجرّد لحظة عابرة، بل مختبراً مفتوحاً يُصاغ فيه شكل المستقبل.

وما بين نماذج توليد البروتينات واكتشاف مواد طاقة جديدة وتحديد مسارات العلاج الجيني المعقّد، برز سؤال مفصلي: هل أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في اختراع العلم ذاته؟ وهل نحن على أعتاب عصر جديد لا تُكتب فيه الأوراق البحثية فقط بواسطة العلماء، بل يُسهم الذكاء الاصطناعي نفسه في تصميم التجربة، وتحليل النتائج، وصياغة الاكتشاف.

في تلك اللحظة، لم يكن السؤال أميركياً فقط، بل عالمياً. وهنا، برزت السعودية مشاركاً فاعلاً، لا مراقباً من بعيد. فقد أشار كثير من المتحدثين إلى أن المملكة، التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب «رؤيتها الطموحة 2030»، باتت تشكّل منصة علمية ناشئة قادرة على احتضان مثل هذه الطفرات العلمية – ليس فقط بالاستهلاك، بل بالإنتاج والتوجيه والتشريع.

في الجلسات التي شهدتها قمة واشنطن، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع نقاش، بل كان الحاضر الأذكى في القاعة، إذ تحدّث روّاد العلم من الصف الأول، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، وشركة OpenAI صاحبة أشهر نماذج اللغة التوليدية (GPT)، لكنّ القيمة الحقيقية لم تكن في الأسماء، بل في التحوّلات التي كشفوا عنها.

لم نعد أمام برامج تنتظر أوامرنا، بل أمام «عقل معرفي» يصوغ الأسئلة قبل أن نفكر فيها، ويبتكر التجارب قبل أن نطلبها، ويقترح الحلول لأسئلة لم نطرحها بعد.

في أحد العروض، عُرض نموذج ذكي قادر على تصميم مواد جديدة للاستخدام في الفضاء والطاقة المتجددة، ليس عبر المحاولة والخطأ، بل عبر استنتاجات رياضية فورية من ملايين التركيبات الكيميائية. وفي عرض آخر، شاهد الحضور كيف أصبح من الممكن فك شيفرات الجينوم البشري وربط الطفرات الجينية بالأدوية الفردية في دقائق، باستخدام خوارزميات قادرة على تجاوز ما يُمكن لفريق بحثي كامل إنجازه في أشهر.

أما الأكثر إدهاشاً، فكان دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميادين ما وراء المجهول: تحليل الظواهر الكمومية، مثل الجاذبية والمادة المظلمة باستخدام نماذج رياضية غير مألوفة، تُبنى ذاتياً من خلال التعلم العميق. لم تعد الفيزياء حكراً على الفرضيات القديمة… بل انفتحت على عقل اصطناعي لا يخضع للتقاليد المعرفية البشرية؛ ما قد يفتح أبواباً على اكتشافات لم نكن نحلم بها.

لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من خادم علمي إلى شريك في إنتاج المعرفة، بل وربما، كما وصفه أحد الباحثين، «أكثر العقول فضولاً على كوكب الأرض… حتى لو لم يكن بشراً».

قد يظن البعض أن خريطة الذكاء الاصطناعي العلمي تُرسم فقط في وادي السيليكون أو على طاولات كمبردج، لكن الحقيقة أن السعودية دخلت المعادلة العلمية بخطى واثقة، لا مستهلكاً متأخراً، بل مُصمّماً لقواعد اللعبة الجديدة.

فالتحول الجاري في المملكة اليوم لم يعد مجرد «رقمنة» للخدمات أو «تحديث» للأنظمة، بل قفزة معرفية تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والبيانات، بين الخوارزمية والمستشفى، بين الجينوم والمنهج الدراسي.

ويأتي ذلك عبر أربعة مسارات استراتيجية متكاملة:

1. مراكز ذكية للطب والجينوم. تم تأسيس مراكز وطنية متقدمة تُعدّ من الأحدث في الشرق الأوسط، تركّز على الطب التنبؤي والبيانات الجينية، وتستخدم نماذج تعلُّم عميق قادرة على التنبؤ باحتمال الإصابة بالأمراض قبل سنوات من ظهور الأعراض.

ولا تحلل هذه المراكز الفحوص، بل تتوقع المسارات الصحية للمريض، وتوجّه خطط الوقاية والعلاج بناءً على بيئته الجينية وأنماط حياته. إنه علم المستقبل… يُمارس اليوم على أرض المملكة.

اقرأ ايضا: مونديال البلياردو بجدة: 32 لاعبًا إلى دور الثمن النهائي

2. شراكات دولية استراتيجية. في مشهد غير مسبوق، وقّعت المملكة اتفاقيات بحثية مع كبرى جامعات العالم مثل أكسفورد (Oxford) ومعهد MIT، لتبادل المعرفة وتطوير خوارزميات طبية مشتركة.

وهذه ليست شراكات رمزية، بل فرق بحث سعودية تشارك فعلياً في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي العلمية العالمية، وتُسهم في إنشاء قواعد بيانات طبية مخصصة للمجتمعات العربية، وهو أمر غائب تماماً عن معظم الجهود الغربية.

3. تعليم المستقبل… يُدرَّس الآن. انطلاقاً من «رؤية 2030»، تم إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم العام والجامعي، خصوصاً في مجالات STEM (العلوم، التقنية، الهندسة، الرياضيات).

لا يُدرّس الطالب السعودي اليوم عن نيوتن فقط، بل يتعلم كيف تُصمم خوارزمية تتنبأ بقوة الجاذبية في بيئة فضائية مختلفة، أو كيف يمكن لنموذج لغوي أن يشرح قوانين الكم بأسلوب شخصي.

4. منظومة حوكمة وأخلاقيات رائدة. ولأن العلم بلا ضوابط قد ينقلب عبئاً؛ بادرت السعودية لتكون أول دولة عربية تطلق «منصة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي» عام 2023، بالتعاون مع هيئة التخصصات الصحية؛ لضمان أن يظل الابتكار خادماً للإنسان… لا العكس.

5. التأثير في المعايير العالمية. لم تعد السعودية مجرد متلقٍّ للمعايير الدولية، بل أصبحت عضواً فاعلاً ومؤثراً في اللجان العالمية لوضع معايير الذكاء الاصطناعي، مثل اللجنة المشتركة ISO/IEC JTC 1، التي تُعد المرجع الأول لتقنين التقنيات الرقمية عالمياً.

أمام هذه التحولات المتسارعة، لا يمكن للعقل العربي أن يظل في مقعد المتفرّج. فالسؤال لم يعد: هل نلحق بالركب؟ بل: هل نحن مستعدون لنكون جزءاً من القيادة؟

هل آن الأوان أن نكفّ عن الاكتفاء باستهلاك النماذج الغربية، ونبدأ في بناء أدوات علمية تتحدث لغتنا، وتفهم بيئتنا، وتحلل بياناتنا الجينية والمجتمعية؟ هل نستطيع أن نُعيد تعريف مختبراتنا وجامعاتنا لتصبح مراكز إبداع ذكائي عربي، لا تُقلّد بل تُبدع؟

جامعات لا تُخرّج باحثين فقط، بل تنتج خوارزميات، وتصمّم مجهراً ذكياً يتفاعل مع لغتنا، ومساعداً بحثياً يقرأ الشعر العربي بقدر ما يفهم تسلسل الجينات!

إن الفرصة متاحة الآن… لا بعد عشر سنوات.

ولدينا في العالم العربي من العقول، والموارد، والهمم، ما يكفي لبناء نسختنا الخاصة من ثورة الذكاء الاصطناعي العلمي.

لكن يبقى السؤال معلقاً فوق سبّورة كل قاعة في جامعاتنا: هل نحن مستعدون… أن نكون جزءاً من الحل؟ أم ننتظر أن يُكتب مستقبلنا بخوارزميات الآخرين؟

في زمن يُعاد فيه تعريف من هو «العالِم»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في يد الباحث، بل أصبح شريكاً فكرياً يكتب المعادلات، يقترح النظريات، بل ويوجّه دفة الاكتشاف العلمي نفسه.

نحن نعيش لحظة يتحوّل فيها «الذكاء» من صفة بشرية إلى قوة معرفية هجينة، تتكوّن من الإنسان والخوارزمية معاً. لحظة يُولد فيها العلم من تفاعلٍ لا سابقة له بين الإبداع البشري والدقة الحوسبية.

وفي هذه اللحظة المفصلية، لم تعد السعودية على الهامش. بل تقف اليوم في قلب السباق، تُنظّم، وتُشرّع، وتُبدع، وتُعلّم. ولذا؛ فإن السؤال الحقيقي لم يعد: هل سنلحق بركب الذكاء الاصطناعي؟ بل أصبح: هل سنرسم نحن وجهته… باللغة العربية، وبالعقل العربي، ومن أرضٍ تحمل رؤية لا تعرف المستحيل؟ وكما قال ابن رشد: «العقل نورٌ يُضيء في ذات الإنسان، وليس حكراً على أمة دون أخرى».

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات