الأحد, يوليو 27, 2025
الرئيسيةالثقافة والتاريخستيفن روز يجمع العلم والمجتمع والسياسة في مركّب واحد

ستيفن روز يجمع العلم والمجتمع والسياسة في مركّب واحد

وأنا أقرأ في الصحافة البريطانية نبأ وفاة عالم الأعصاب البريطاني ستيفن روز Steven Rose مؤخّراً رجعت بي ذاكرتي إلى بواكير تسعينات القرن الماضي عندما قرأتُ كتابه المترجم والصادر عن سلسلة «عالم المعرفة» الرصينة لشهر أبريل (نيسان) من عام 1990. كان الكتاب بعنوان «البيولوجيا والآيديولوجيا والطبيعة البشرية»، وقد استأنس مترجمه الراحل الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي أن يجعل العنوان الثانوي للنسخة الإنجليزية من الكتاب عنواناً رئيسيّاً للترجمة العربية. العنوان الأصلي للكتاب هو «ليس في جيناتنا» (Not In Our Genes)، وهو عنوان يقود القارئ على الفور إلى موضوعة الحتمية الجينية والمتعلّقات التي تترتّبُ عليها في كلّ الأصعدة. كان الكتاب فريداً في طبيعة موضوعاته وعناوين فصوله، وهو ما دفعني إلى متابعة أعمال مؤلّفه البروفسور روز الذي غالباً ما نشر أعماله بمشاركة زوجته هيلاري روز Hilary Rose. لا أظنُّ أنّ موضوعة الحتمية الجينية ستُحسَمُ في مستقبل قريب. ربما المثال الأقرب إلى التناقض الصارخ في آراء العلماء والمختصّين هو كتاب العالم السلوكي روبرت سابولسكي Robert Sapolsky، أستاذ جامعة ستانفورد الذي اختار عنواناً محتّماً (Determined) لكتابه المنشور قبل ما يقارب السنة. الأمر ليس علماً محضاً. إنّه علم مدفوع بضغوط أو انحيازات سياسية أو آيديولوجية. سنكون مفرطين في المثالية المحلّقة لو افترضنا أنّ العلماء محكومون بأخلاقيات منزّهة عن سطوة السياسة أو اشتراطات الآيديولوجيا.

اتّبع روز نهجاً اختزاليّاً واسع النطاق في أبحاثه حول الآليات الكيميائية الحيوية للذاكرة، وفي الوقت نفسه تبنى موقفاً سياسيّاً بارزاً بالضدّ من فكرة أنّ السلوك البشري تُحدّده جيناتنا. ساهم روز، بصفته أوّل أستاذ أحياء اختير للتدريس في الجامعة المفتوحة (Open University) – وهي مؤسسة التعليم عن بُعد (Distant Learning) التي تأسست بمبادرة حكومية من حزب العمال البريطاني عام 1969، في ريادة نهج ديمقراطي لتدريس العلوم العملية. كما ساهم روز المعروف بحماسه وروحه القتالية وفصاحته في نقاشات معمّقة مع زملائه العلماء. في سبعينات القرن الماضي تحدّى روز فكرة أن اختبارات الذكاء (IQ)- التي كانت مُعْتَمَدة على نطاق واسع آنذاك في التعليم والتوظيف – تقيس «الذكاء العام» المُحدّد وراثيّاً. دارت هذه النقاشات، وما تلاها من نقاشات مستفيضة، في نطاق ثقافي أوسع من المعتاد في معظم النقاشات العلمية، مدفوعةً بسلسلة من الكتب الشهيرة.

كان من أبرز مُناوئي روز عالم الحشرات إدوارد أو. ويلسون Edward O. Wilson، مؤلف كتاب «البيولوجيا الاجتماعية» (Sociobiology)، ومُنظّر البيولوجيا التطوّرية ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، مؤلف كتاب «الجين الأناني» (The selfish Gene)، الذي انضم إليه لاحقاً عالم الأعصاب الإدراكي ستيفن بنكر Steven Pinker أستاذ هارفارد.

رأى روز فكرة «أنّ جذور السلوك الاجتماعي البشري قد غُرِسَتْ من خلال عملية الانتقاء الطبيعي لخدمة إدامة جيناتنا» هي فكرة متهافتة. لم يُشكّك في نظرية التطور الداروينية كقوة دافعة في علم الأحياء؛ غير أنه جادل من منظور ماركسي بأنّ التاريخ والمجتمع لا يقلّان أهمية عن الجينات البشرية في تحديد طبيعة الأفعال البشرية.

في عام 1984 شارك روز في تأليف كتاب «ليس في جيناتنا: علم الأحياء، والآيديولوجيا، والطبيعة البشرية»، بالاشتراك مع عالم الوراثة الأميركي ريتشارد ليونتين وعالم النفس ليون كامين. قدّم الكتاب نقداً لاذعاً لأطروحات البيولوجيا الاجتماعية والحتمية الجينية، بل ذهب أبعد من ذلك في إلقاء اللوم على هذه الآراء في فشلنا المزمن في بلوغ مجتمع أكثر عدلاً. قوبل الكتاب بآراء متباينة، بما في ذلك الإشارةُ إلى أنّ روز وزملاءه قد حرّفوا آراء معارضيهم؛ لكن برغم هذا لم يتراجع روز عن موقفه أبداً. بعد أكثر من عقد على نشر كتاب «ليس في جيناتنا» أعاد روز في كتابه «خطوط الحياة» (Life Lines)، المنشور عام 1997، صياغة حججه، مسلطاً الضوء على الأحداث الارتقائية والبيئية التي تحدث طوال الحياة لكلّ فرد منّا، والتي ليست بطبيعتها مُحددة بصورة مسبّقة، ولكنْ من خلالها يُنظّم الكائن الحي نفسه ليصبح فرداً مميّزاً وفريداً من نوعه. كتب روز في هذا الشأن: «من طبيعة الأنظمة الحية أن تكون غير محددة تماماً، وأن تبني باستمرار مستقبلها الخاص، وإن كان ذلك في ظروف ليست من اختيارنا». واضح أنّها رؤية تعزّز قناعة روز في مناكفته للحتمية الجينية.

نوصي بقراءة: «غير مرئية»… الإيهام بحقيقية الأحداث

كان روز كاتباً آيديولوجياً لا يستطيع الفكاك من ميوله الماركسية، تتدفق كلماته في الكتابة بسهولة كما تتدفّق في الحياة الواقعية، جامعاً بين العلم والمجتمع والسياسة في مركّب معقّد واحد. أتاحت منحة دراسية لروز دراسة العلوم الطبيعية في كلية كينغز بجامعة كامبريدج، حيث كان ينوي في البداية التخصص في الكيمياء؛ لكنّه وجد نفسه في بيئة تعجّ بالاكتشافات الجديدة في الكيمياء الحيوية، بما في ذلك «الحلزون المزدوج» (The Double Helix) للحمض النووي الذي اقترحه جيمس واتسون James Watson وفرانسيس كريك Francis Crick في بدايات العقد الخمسيني من القرن العشرين. التقى روز بهيلاري تشانتلر، وهي طالبة ناضجة أرملة كانت تدرس علم الاجتماع في كلية لندن للاقتصاد عام 1960، وتزوّجا في العام التالي. منذ ذلك الحين تشارك الزوجان الرؤية الآيديولوجية والمتبنيات العلمية.

كان العمل السياسي والاحتجاج جزءاً أصيلاً من حياة روز منذ طفولته؛ فقد تعرّض لهجوم من راشقي الحجارة الفاشيين في أواخر الأربعينات من القرن العشرين، وشارك في معارك ضارية مع الشرطة البريطانية أثناء تظاهره ضد غزو السويس وهو لم يزل طالباً جامعياً. شكّل ستيفن وهيلاري شراكة وثيقة، شخصية ومهنية: شاركته هيلاري في تأليف العديد من كتبه، وكانا عضوين مؤسسين في الجمعية البريطانية للمسؤولية الاجتماعية في العلوم.

لم تكن مشاركة هيلاري لزوجها في عمله العلمي ناتجة عن رغبة مجرّدة في المشاركة؛ بل جاءت في سياق عملها العلمي. عملت هيلاري أستاذاً للسياسة الاجتماعية في جامعة برادفورد البريطانية، مع اهتمام خاص بعلم اجتماع العلوم، واتّحد الزوجان في نشاطهما السياسي (الماركسي على نطاق واسع، ولكنه لم يكن مؤيداً للسياسة الشيوعية السوفياتية) في قضايا مثل حرب فيتنام، والسيطرة على الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.

بعد بداية متعثرة كباحث ما بعد الدكتوراه في جامعة أكسفورد، التي وجد بيئتها رجعية خانقة، أمضى روز خمس سنوات (1964 – 1969) في كلية إمبريال كوليدج لندن. في عام 1969 انضمّ إلى الجامعة المفتوحة، حيث أسّس قسم علوم الحياة من الصفر، وأسّس، انطلاقاً من المبادئ الأولى، كيفية تدريس العلوم من خلال مزيج من الدراسة المنزلية والتجربة، والبرامج التلفزيونية، والمدارس الصيفية. كانت تلك سياسة تعليمية جديدة ثورية الطابع في البيئة الإنجليزية المحافظة.

تقاعد روز في عام 1999؛ لكنه احتفظ بمختبره، واستمر في إجراء البحوث لأكثر من عقد، كما ظلّ مواظباً على الكتابة النشيطة التي توّجها بالعديد من الكتب الممتازة عن الدماغ البشري والعلوم العصبية.

قد نختلف مع ستيفن روز في رؤاه؛ لكن ليس باستطاعتنا نكرانُ الأفق الإنساني الواسع لكتاباته. ليس ثمّة مشتغلٌ بالعلم يستطيع مواصلة العيش في كبسولة مشيّدة بجدران مضادة للآيديولوجيا أو السياسة. إنّهما كالهواء الذي نتنفّس، توجدان في كلّ مكان وزمان. حسبُهُ أن لا يعمل على جعل تلك الآيديولوجيا أو السياسة منتجة لعلم زائف، وألا يستبدل التوجّه الإنساني للعلم بتوجّهات مضادة للإنسانية أينما كانت وكيفما كانت. في هذا الشأن أستطيع القول بثقة معقولة إنّ ستيفن روز غادر عالمنا بضمير غير مثقل بأيّ من مثالب الآيديولوجيا أو ألاعيب السياسة، وهذا امتيازٌ قد يعسر نَيْلُهُ في عالمنا المعاصر.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات