الأحد, يوليو 27, 2025
الرئيسيةالاخبار العاجلةالخرطوم تتنفس مجدداً... وجيوب المواطنين لا تحتمل

الخرطوم تتنفس مجدداً… وجيوب المواطنين لا تحتمل

بعد شهور طويلة من المعاناة والنزوح والدمار، بدأت «سوق أم درمان» العريقة تستعيد شيئاً من عافيتها… عاد الباعة إلى مواقعهم، وعادت خطوات المتسوقين تتقاطع في الأزقة القديمة، لكن خلف هذا الحراك النشط تختبئ معاناة صامتة: «الغلاء، والفقر، والحياة التي تغيرت إلى الأبد».

حمد الأمين، بائع خضراوات في السوق منذ عام 1976، غاب عن متجره طوال عامين بسبب الحرب. لكنه عاد إلى بسطته كأن شيئاً لم يكن… يقول: «هذه مهنتي… قضيت فيها شبابي وشيخوختي، ولا أعرف غيرها».

يحفظ الرجل السبعيني زبائنه فرداً فرداً، ويبتسم لهم جميعاً، ويضع لهم الخضراوات في كيس بلاستيكي شفاف، ويسألهم عن أحوالهم قبل أن يسأل عن المال.

حمد الأمين بائع خضراوات في «سوق أم درمان» منذ 1976 (الشرق الأوسط)

بعضهم، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»، لا يملكون شيئاً، لكنه يمنحهم الخضراوات مجاناً أو يسجل ديونهم إلى آخر الشهر، فهم في نظره «إخوته الذين لم تلدهم أمه».

تعمل السوق من الصباح حتى ما بعد مغيب الشمس رغم غياب الكهرباء؛ لأن حركة الناس زادت بعد خروج القوات المقاتلة من الخرطوم، وبدأت المدينة تتنفس.

في متاجر اللحوم، يقول فخر الدين محمد إن الطلب عليها بدأ يتحرك، لكن الشراء بكميات ضئيلة، ويضيف: «أغلب الناس يشترون ربع كيلو. بعضهم، حتى، يشتري كميات أقل؛ نصف ربع (ثُمن)، ونسميه لحم (مكالمة فائتة – مِسْد كول)».

ووفقاً لإفادة فخر الدين لـ«الشرق الأوسط»، فإن «سعر كيلو لحم الضأن يبلغ 32 ألف جنيه، والبقري 20 ألفاً، والكبدة 24 ألفاً»، في وقت تجاوز فيه سعر شراء الدولار الأميركي الواحد حاجز الثلاثة آلاف جنيه سوداني. ورغم هذا، فإن فخر الدين يقول: «نبيع بأي مبلغ. نعلم ظروف الناس».

عنصر من الجيش السوداني يمرّ بين منازل متضررة جراء الحرب في مدينة أم درمان بالخرطوم (رويترز)

ويقول متوكل البشري، وهو أيضاً بائع خضراوات منذ 20 عاماً، إن «الأسعار ارتفعت بسبب تكاليف الترحيل. سعر كيلو الطماطم 7 آلاف جنيه»… لذا؛ يشتري المواطنون ما يُتعارف عليه بـ«سلطة»، وهي «كمية صغيرة متنوعة من الخضراوات الأساسية مقابل 4 آلاف جنيه. لا أحد يستطيع الشراء بالكيلو».

نوصي بقراءة: «الكردستاني» يرهن نزع أسلحته بخطوات من تركيا أولاها الإفراج عن أوجلان

ويلفت البشرى إلى إقبال المواطنين على ابتياع حوائجهم، ويقول: «هناك إقبال كبير من المواطنين الذين عادوا بعد رحلة نزوح طويلة بحثاً عن الاستقرار، لكن الشراء محدود؛ بسبب الظروف الاقتصادية».

صورة تظهر حجم الدمار الذي أصاب أحد المباني في أم درمان نتيجة الاشتباكات (رويترز)

وخلال جولة للصحيفة في «سوق أم درمان»، رصدت حركة نشطة في أرجائها، مع ازدحام شديد في مواقف المواصلات، خصوصاً في ساعات النهار وخروج الموظفين.

التجار يؤكدون أن عودة حركة المواصلات ساعدت في إنعاش السوق، لكن مظاهر الحرب لا تزال حاضرة… «محلات محطمة، وآثار حريق، وأكوام من النفايات تسد الطرقات، وبعض التجار ينظفون محيطهم بأنفسهم».

وتحت الشمس الحارقة، يجلس عشرات عمال المياومة على الأرض، ينتظرون فرصة عمل في الحفر أو البناء، ويتحدثون عن معاناتهم خلال الحرب ونزوحهم إلى الولايات الآمنة، وإقامتهم في معسكرات الإيواء. لكنهم يأملون أن يجدوا «شغلة» تتيح لهم شراء طعام لأسرهم ولو ليوم واحد.

النساء هن الحضور الأبرز في السوق، لكن ليس بالضرورة بوصفهن مشترِيات؛ بعضهن، مثل فاطمة بابكر، عُدْن من النزوح ليجدن منازلهن مدمرة ومسروقة. تقول فاطمة لـ«الشرق الأوسط: «لم أجد حتى ملعقة في بيتي، الآن نجلس على الأرض في عريشة من جوالات الخيش (راكوبة)، وأبحث عن أي عمل في السوق حتى أشتري لنا سريراً ننام عليه».

فاطمة بابكر… سيدة فقدت كل شيء وتبحث عن عمل لشراء سرير تنام عليه (الشرق الأوسط)

لكن وفق محمد أحمد، التاجر في السوق، فإن الأسعار شهدت زيادات لافتة مؤخراً؛ إذ ارتفع سعر جوال السكر زنة 50 كيلوغراماً من 126 ألف جنيه إلى 176 ألفاً، بينما ارتفع سعر جوال العدس زنة 25 كيلوغراماً من 58 ألف جنيه إلى 68 ألفاً، وجوال طحين القمح زنة 50 كيلوغراماً من 38 ألف جنيه إلى 45 ألفاً.

وتأكيداً لقسوة الحياة، يقول محمد أحمد للصحيفة: «يتزامن مع هذه الزيادات، شح السيولة النقدية، بل انعدامها، مع رواتب فقدت قيمتها بتدهور سعر صرف الجنيه، لذلك يضطر كثيرون للاستدانة، أو الاعتماد على الدقيق والسكر فقط»…

دبت الحياة مجدداً في «سوق أم درمان»، لكن الناس لم يعودوا كما كانوا، فقد فقدوا بيوتهم، ووظائفهم، وأحباءهم، لكنهم يتمسكون بالأمل، وفي كل بائع عائد إلى بسطته، وعامل ينتظر رزقه، وامرأة تبحث عن لقمة لأبنائها… هناك قصة صمود سودانية تستحق أن تُروى.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات