الثلاثاء, أغسطس 12, 2025
الرئيسيةالثقافة والتاريخكتاب تونسي يضيء عتمة الهامش الاجتماعي

كتاب تونسي يضيء عتمة الهامش الاجتماعي

في سبعة فصول وخاتمة قصيرة، وعدد صفحات من القطع المتوسط لا يتجاوز 232 صفحة، يقدم الباحث التونسي هيكل الحزقي دراسته المعنونة «أجواد وأوغاد… قصة الباندي التونسي» كأوضح ما تكون في دراسة مميّزة، تضيء جوانب عديدة من عتمات الهامش الاجتماعي في تونس.

قصة الباندية ليست جديدة. اختلفت في تفاصيلها – قليلاً أو كثيراً – من مكان إلى آخر. والذين منّا ولدوا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكبروا في حارات وأزقة المدن القديمة، ربما عايشوها ويتذكرونهم.

في طرابلس الغرب، وفي المدينة القديمة تحديداً، حيث ولدتُ، قبل المرحلة النفطية، كانت الباندي مفردة مميّزة وواضحة في المعجم الحياتي اليومي، حاضرة حضور البؤس والفقر والجهل والمرض. فالمرء آنذاك، كان يسمع بالباندية وبأفعالهم قبل أن يراهم، لأن سيرهم الشخصية كانت تجري على الألسنة. في أيام صباي، كانوا يسمونهم «القبضايات» و«الرديف» و«الزُوفرية». وبمجرد أن تضعك الصدف في طريق واحد منهم، تكتشفه من ملامح وجهه، وأوشام الذراعين، ومن طريقة لباسه، وتميز مشيته بذراعين مفتوحتين، وصدر بارز. نادراً ما تجد بينهم من يفكُّ الحروف. وأغلبهم كانوا أولاد ليل، يقضون ليلهم في الحانات وفي دور البغاء. لا يحملون أسلحةً من أي نوع. ويعتمدون على قوة قبضاتهم في معاركهم.

«الباندي»، وفقاً للباحث التونسي الشاب هيكل الحزقي، كلمة ليست عربيةً بل وافدة. وفي رأيه، ربما تعود في أصولها إلى البحارة الصقليين، الذين كانوا يأتون بمراكبهم إلى مواني صيد السمك في تونس. ويصفهم بأنهم كانوا سكّيرين ومقاتلين شرسين، ومثيرين للشغب والعنف. «زوافري» هي المفردة التونسية المقابلة للباندي الصقلية. وهناك مفردات أخرى عديدة إلا أنها تقصر عن وصف الباندي، كون «الزوافري» حُكما أخلاقياً، اختار أبناء المدينة الأصليون (البلدية) إطلاقه على القادمين من الأرياف إليها، وأقاموا خارجها في الأرباض، بغرض تمييزهم، ووضعهم في مرتبة اجتماعية وأخلاقية أقلّ.

تصفح أيضًا: «حشرات سوداء»… قصص ترصد هموم النساء

يتتبع المؤلف هيكل الحزقي أصول المفردة تاريخياً في القاموس الشعبي العربي، وظهورها بأسماء مختلفة في مختلف الحقب. من الصعاليك والعيّارين والشطّار والفتيان والقبضايات والفتوات، إلى الزوافري والقطعي والدواكاري (الحمّال في الميناء) والأفّاق. ويبين الفروق بين كل منهم. ويرى أن العتّالين في الميناء ربما كانوا هم من نشر ثقافة الباندية، بما كان يجمعهم من رابطة اجتماعية مهنية، وما يتميّزون عن غيرهم من من لباس وشدّة بأس، وميل إلى السُكر في الحانات بعد انقضاء دوام عملهم في الميناء، وما ينجم عنه من معارك بينهم. ويوضح أن الباندية لا يقتصرون على تلك النوعية من الأشخاص المميزين بقدراتهم البدنية الهائلة، بل يمتد ليطول الأولياء. فهم أيضاً باندية لكن من نوع آخر، بما يقومون به من خوارق وأعمال، أضفتْ عليهم هالة أسطورية.

هيكل الحزقي يضع الاستعمار الفرنسي وراء بروز ظاهرة الباندي في تونس، نتيجة استيلائه على الأراضي وإجبار سكان الأرياف على الهجرة إلى المدن، وممارسة الاضطهاد والقمع ضدهم، وانتشار البطالة بينهم. وهي أمور ذات تأثيرات نفسية سلبية، وبالذات على قيم الرجولة في مجتمع ذكوري. ويفسّر ذلك التأثير بقوله إن الرجولة المهددة بفعل تسلط المستعمر «لها الأثر العميق في توجهات الناس وثقافاتهم وتواترات التوجهات المضادة ومحاور الحنين والبكاء على الماضي. والتحسّر على الأبطال والأمجاد القديمة». أي أن الباندي جاء تلبية لحاجة نفسية عميقة في قلوب المستضعفين والمضطهدين. ولذلك السبب، لم يعد الباندي شخصاً يعتمد على قوته البدنية في الاستحواذ على ما لدى غيره من أموال وطعام، بل تحوّل بين الناس إلى «وليّ بلا قبّة»، بأن صار بطلاً شعبياً أسطورياً في الحومة، سخّر قوته البدنية وشجاعته في حماية أولاد وبنات الحومة، ورد الحقوق، وإنصاف المظلومين، ومعاقبة المعتدين. وحتى حين يضطر بعض الباندية إلى التعاون مع السلطة الاستعمارية مقابل إغماضها العين عن أفعالهم، يضطر الناس إلى تجاهل تلك النقيصة، ولا يأتون على ذكرها في أحاديثهم. فما يهمّ هو الحفاظ على سيرة ابن حومتهم، البطل الأسطوري، نظيفة من الشوائب. ولقاء ذلك، كان الباندية يحصلون على ما يريدون من دون الحاجة إلى دفع ثمن. أشهرهم يُدعى علي شورّب عاش في بيت مؤجر مع أمه وأخوته لمدة ثلاثين عاماً بحومة الحلفاوين، من دون أن يدفع درهماً واحداً.

الباندية ليسوا أشخاصاً فقط. بل ثقافة شعبية انتشرت واستوطنت الحوم التونسية. لهم تقاليدهم، ولغتهم الخاصة، ويسمونها «القجمي»، ولهم غناؤهم و«ربوخهم»، وهواياتهم التي عرفوا بها، حيث غرموا برياضة نطح الكباش. فكان لكل باندي كبشه الخاص. كما كانوا يحبون طيور الزينة، ولذلك السبب كان يوصفون بالريشة. وكانوا في جلسات سكرهم الليلية يميلون إلى تأليف الأغاني التي تشتهر بأسمائهم. ولكل منهم منطقته الجغرافية التي يمتد عليها سلطانه، وويل لمن يعتبها من الباندية الغرباء. ويشتركون في كراهيتهم للسلطة الحاكمة، سواء الاستعمارية أو السلطة الوطنية التي جاءت بعد خروج المستعمر الفرنسي.

اختار الباحث أن يعنون دراسته «أجواد وأوغاد»، وقصد به التفريق بين نوعين من الباندية. الأوغاد وهم رجال الليل، ممن يشبهون قطّاع الطرق، ولا هم لهم سوى التعرض للناس ليلاً في الأزقة المظلمة، وافتكاك ما يحملون من نقود. والأجواد وهم الفئة النقيضة المسخّرة للخير والحماية ورد المظالم.

يحرص الباحث على تخصيص فصل في آخر الدراسة للباندية من النساء. بتأكيده على الدور الذي كانت أمهات وأخوات وحبيبات الباندية يقمن به بين نساء الحومة، من فض للخصومات، وإنصاف للمظلومات وعقاب للمعتديات. كما يتعرض لنساء بانديات ممن تحترفن السرقة، وقادن العصابات. وذاعت شهرتهن في طول البلاد وعرضها.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- اعلان -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات