في كل مرة تلامس فيها قدم لامين يامال الكرة، يتردد في أذهان جماهير برشلونة الإسباني صوت قديم، صوت يعيدهم إلى بدايات الأسطورة ليونيل ميسي. فبعد سنوات من البحث عن نجم جديد يملأ الفراغ الذي تركه النجم الأرجنتيني، ظهر لاعب جديد في أروقة ملعب كامب نو، يحمل ملامح الموهبة الاستثنائية، اسمه لامين يامال.
منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها الشاب صاحب الـ16 عامًا إلى الملعب بقميص الفريق الأول، ارتفعت التوقعات حول مستقبله بشكل كبير ومتزايد، فقد بدا وكأنه مشهد مألوف يتكرر: لاعب موهوب يتدرج في أكاديمية لاماسيا، يخطف الأنظار بلمساته، ويبدأ في كتابة فصول قصة قد تكون أسطورية بقميص برشلونة.
المقارنة المتكررة بين الموهبة الصاعدة لامين يامال والأسطورة ليونيل ميسي ليست مجرد كلام عابر، بل هي نتيجة منطقية لمجموعة من العوامل التي تجعل من هذا الربط أمرًا منطقيًا وموضوعيًا. فكلاهما نتاج أكاديمية لا ماسيا الشهيرة، وكلاهما بدأ مسيرته الاحترافية في مركز الجناح الأيمن معتمدًا على قدمه اليسرى، مما يخلق تشابهًا في الأسلوب على أرض الملعب، ويضاف إلى ذلك أن يامال نفسه يعتبر ميسي مثله الأعلى في عالم كرة القدم.
هذا التشابه يجعلنا نرى نسختين من لاعبين كلاهما يمتلك قدرة استثنائية على المراوغة في المساحات الضيقة، وميل للدخول إلى العمق لربط اللعب أو التسديد. يامال هو أول لاعب منذ ميسي يتطابق مع هذا النموذج الأصلي بهذه الدقة وفي هذه السن المبكرة، مما يجعل النقاشات تشتعل حول إمكانية رؤية هذا النموذج الأسطوري من جديد في برشلونة.
لكن، هل مجرد التشابه في المسار والبداية يكفي لصناعة نسخة جديدة من ميسي؟ وهل يمتلك يامال ما يكفي ليقود مشروع برشلونة الجديد ويعيد للفريق هيبته المفقودة؟ في هذا التقرير، نعود إلى الوراء لنتأمل كيف بدأت حكاية ميسي، ونقارنها بخطوات يامال الأولى، لنستكشف إلى أي مدى يمكن أن يشبه الشاب الساعي نحو القمة، مثله الأعلى.
كلا اللاعبين انطلقا من مركز الجناح الأيمن، معتمدين على مهاراتهما الفردية في المراوغة لزعزعة استقرار دفاعات الخصوم. يكشف التحليل الرقمي لهذه المرحلة المبكرة عن أوجه تشابه مذهلة، ولكنه يشير أيضاً إلى اختلافات دقيقة في طبيعة الدور الذي قام به بكل منهما.
منذ ظهوره الأول، أثبت لامين يامال أنه ليس مجرد لاعب شاب واعد، بل هو ماكينة إحصائية. بياناته من مواسم 2022-2023، 2023-2024، و2024-2025 تظهر تطورًا سريعًا في جميع جوانب اللعبة، وتقاريره الرقمية تضعه ضمن النخبة في العالم (أعلى من الشريحة المئوية 90) في مقاييس مهمة مقارنة بأقرانه من الأجنحة ولاعبي الوسط المهاجمين في الدوريات الخمس الكبرى.
لامين يامال يحتل الشريحة المئوية 99 في المراوغات الناجحة (4.94 لكل 90 دقيقة)، والشريحة 93 في صناعة الفرص المؤدية للتسديد (5.61 لكل 90 دقيقة)، والشريحة 95 في التمريرات الحاسمة المتوقعة (0.37 لكل 90 دقيقة)، والشريحة 96 في الحمل التقدمي للكرة (5.81 لكل 90 دقيقة).
هذه الأرقام لا تعكس مجرد لاعب موهوب، بل لاعب بدايات لاعب يمكنه أن يصبح أسطورة خالدة إذا ما سار على نفس النهج، وربما يستطيع إثبات مقولة أنه خليفة ميسي ووريثه الحقيقي في برشلونة.
إحصائيات لامين يامال لكل موسم في الدوري الإسباني (2022-2025)
في سنواته الأولى، كان ميسي قوة خارقة تعتمد على المراوغة بشكل شبه كامل. كل من شاهده يؤكد أن ميسي كان لاعب لا يمكن إيقافه إلا بصعوبة بالغة في سنواته الأولى مع الفريق الأول لبرشلونة، لكن البيانات الإحصائية تؤكد هذه الانطباعات والرؤى.
في موسم 2005-2006، بلغ متوسط مراوغات ميسي الناجحة 7.4 لكل 90 دقيقة، و7.1 في موسم 2006-2007، قبل أن يقفز إلى رقم خيالي يبلغ 8.4 مراوغة لكل مباراة في موسم 2007-2008. هذه الأرقام تضعه في مكانة خاصة به وحده لا ينافسه فيها أحد، متفوقًا حتى على أفضل المراوغين في كرة القدم الحديثة. ميسي كان سلاحًا فتاكًا، قادرًا على تفكيك أي دفاع بمفرده.
إحصائيات ليونيل ميسي في بداياته بالدوري الإسباني (2004-2008)
لتحقيق مقارنة عادلة، نقارن بين أداء يامال في موسم 2024-2025 (عمر 17) وأداء ميسي في موسم 2005-2006 (عمر 18)، مع توحيد المقاييس لكل 90 دقيقة.
تحليل ومقارنة لكل 90 دقيقة (يامال في عمر 17 ضد ميسي في عمر 18)
تكشف المقارنة عن أن ميسي الشاب يتفوق بشكل واضح في التهديف، في حين أرقام يامال في المراوغات والتمريرات الحاسمة (0.41 تمريرة حاسمة لكل 90 دقيقة) أكبر. هذا يشير إلى اختلاف في الدور التكتيكي المبكر. كان ميسي سلاحًا تهديفيًا أقوى من يامال، في حين يركز يامال منذ البداية على إفادة الفريق من جانب صناعة اللعب أكثر من التهديف، وهو الدور الأكثر أهمية للاعب الجناح.
ما يدعم هذه الفكرة هو معدل يامال المرتفع في استقبال التمريرات التقدمية (13.33 لكل 90 دقيقة، في الشريحة المئوية 97)، مما يثبت أنه محطة مهمة في هجمات فريق برشلونة.
ميسي كان سلاح القوة التهديفية من الأطراف، لكن يامال يسير في طريق ليكون قائد الأوركسترا وصانع الألعاب، ولكن من على الأطراف.
نوصي بقراءة: تمهيدا لرحيله.. ليفربول يحدد بديل لويس دياز المثالي في أنفيلد
القفزة التي حولت ميسي من نجم عالمي إلى أسطورة تاريخية لم تكن مجرد تطور طبيعي، بل كانت نتاج ثورة تكتيكية قادها المدرب بيب جوارديولا. في موسم 2008-2009، تم نقل ميسي من الجناح الأيمن إلى مركز جديد ومبتكر، مركز المهاجم الوهمي، في وقت لم يكن هذا الدور موجودًا في كرة القدم، وخاصة للاعب بخصائص جسد ميسي الغير قوي في ذلك التوقيت. تكتيكيًا، هذا الدور يعني أن اللاعب الذي يبدأ على الورق كمهاجم صريح لا يبقى في الأمام، بل يعود بشكل متكرر إلى عمق خط الوسط لاستلام الكرة والمشاركة في بناء الهجمة، وترك المساحة للأجنحة للانطلاق.
كان الهدف من هذا التحول عبقريًا، أولًا، خلق تفوق عددي في وسط الملعب، مما يسمح لبرشلونة بالسيطرة على الكرة بشكل شبه كامل. ثانيًا، زعزعة استقرار خط دفاع الخصم. عندما يسقط ميسي، يواجه قلب الدفاع المنافس معضلة: إما أن يتبعه إلى وسط الملعب، مما يترك فجوة خلفه تستغلها الأجنحة السريعة مثل تييري هنري وصامويل إيتو، أو يبقى في مكانه، مما يمنح ميسي المساحة والوقت الكافيين للاستدارة ومهاجمة الدفاع مباشرة. هذا الدور كان حلًا تكتيكيًا لمشكلة الفرق التي تتكتل دفاعيًا ضد برشلونة، حيث استغله ميسي أفضل استغلال بمهاراته ورؤيته في الملعب، ليخترق دفاعات الخصوم دون رحمة ويسجل الأهداف ويصنعها بكل براعة.
النتائج الإحصائية لهذا التحول كانت فورية ومذهلة. بعد أن سجل ميسي 10 أهداف في الدوري في موسم 2007-2008، انفجرت أرقام ميسي التهديفية بشكل غير مسبوق.
التحول الإحصائي لميسي قبل وبعد دور المهاجم الوهمي (الدوري الإسباني)
توضح الأرقام أن معدل تهديف ميسي تضاعف أكثر من مرتين، مما يثبت أن هذا التحول التكتيكي لم يكن مجرد تغيير في المركز، بل كان إطلاقًا وتحريرًا لكل إمكاناته، فقد تم توظيف كل مهاراته، مثل المراوغة، والرؤية، والتحكم بالكرة، والتمرير كسلاح هجومي متكامل، وأصبحت الأهداف هي النتيجة الطبيعية لهذا النظام الذي بُني حوله.
لكي يتبع يامال مسارًا مشابهًا، لا يكفي امتلاك الموهبة فقط، بل يجب أن تتوفر البيئة التكتيكية المناسبة التي تسمح له بالتطور. حاليًا، يتشكل يامال تحت تأثير فلسفتين تدريبيتين: نهج لويس دي لا فوينتي مع المنتخب الإسباني، وخطط هانز فليك الهجومية في برشلونة.
مع المنتخب الإسباني، الذي توج بطلًا ليورو 2024، لعب يامال دورًا حاسمًا كصانع لعب أكثر من كونه هدافًا. إحصائيات البطولة تظهر أنه قدم 4 تمريرات حاسمة (بمعدل 0.72 لكل 90 دقيقة) مقابل تسجيله هدفًا واحدًا (بمعدل 0.18 لكل 90 دقيقة). تكتيكيًا، استخدمه المدرب لويس دي لا فوينتي كجناح تقليدي على الخط، مهمته الأساسية هي توسيع الملعب، مواجهة الظهير في مواقف 1 ضد 1، وخلق الفرص من الأطراف.
نهج دي لا فوينتي يركز على الحفاظ على يامال على المدى الطويل، من خلال إبقائه على الأطراف، يقلل المدرب من دخوله في التحامات بدنية قوية في وسط الملعب، وهو أمر حيوي للاعب في عمره لتجنب الإرهاق والإصابات. هذا النهج يخدم أهداف المنتخب في الفوز بالبطولات الحالية، ويحافظ على سلامة اللاعب لمستقبل طويل، لكنه لا يدفعه كثيرًا نحو التطور إلى دور أكثر تعقيدًا.
فلسفة مدرب برشلونة، هانز فليك، تبدو كأنها البيئة المثالية التي قد تشعل شرارة التحول الكبير ليامال. يعتمد فليك على نظام لعب هجومي (غالبًا 4-2-3-1 أو 4-3-3) يتميز بالضغط العالي، اللعب العمودي السريع، واللامركزية في الهجوم.
الأهم من ذلك هو الدور الذي يمنحه فليك للأجنحة، ففي نظامه، لا يقتصر دور الجناح على البقاء على الخط، بل يقوم بالتحرك للداخل في أنصاف المساحات بين الظهير وقلب الدفاع، بهدف خلق تفوق عددي وربط اللعب مع لاعبي الوسط والمهاجم. هذا التكتيك يتماشى مع الميول الطبيعية ليامال كلاعب أعسر يحب الدخول إلى العمق للتسديد أو التمرير.
هذه البيئة التكتيكية التي يوفرها فليك هي العامل الأكثر أهمية الذي يجعل سيناريو تطور يامال إلى “ميسي الجديد” أمرًا ممكنًا. فليك ليس معجبًا بموهبة يامال فحسب، بل إنه يوفر المواقف الهجومية اللازمة لمزيد من الاستفادة منها.
إذا كان نظام دي لا فوينتي يحافظ على يامال، فإن نظام فليك يصقله ويدفعه للتطور، فهو يوفر المرحلة الانتقالية التي يمكن أن تنقل يامال بسلاسة من جناح من الطراز العالمي إلى صانع لعب مركزي شامل، تمامًا مثلما حدث مع ميسي تحت قيادة جوارديولا.
بعد تحليل البيانات وقراءة السياق التكتيكي، تتضح الصورة بشكل أكبر. يمتلك لامين يامال بيانات إحصائية كجناح شاب تضاهي، وفي بعض المقاييس الإبداعية تتفوق على مرحلة بدايات ميسي. القفزة الأسطورية لميسي كانت مدفوعة بتحول تكتيكي عبقري إلى دور المهاجم الوهمي. واليوم، تبدو البيئة التي يوفرها هانز فليك في برشلونة مهيأة بشكل مثالي لتسهيل مسار تطوري مشابه ليامال، لكن ليس بالضرورة بنفس الكيفية أو الأدوار.
إذن، هل يمكن أن يصبح لامين يامال ليونيل ميسي يومًا ما؟ الإجابة المباشرة هي “لا”، فتكرار مسيرة ميسي الفريدة وإنجازاته التي لا مثيل لها (8 كرات ذهبية، وكأس العالم، وإنجازات فردية وأرقام قياسية لا تحصى) هو أمر يقترب من المستحيل. لكن السؤال الأعمق والأكثر واقعية هو: هل يمكنه اتباع مسار تطوري مشابه ليتحول من جناح خارق إلى اللاعب المركزي الأفضل في العالم؟ هنا، تشير الأدلة إلى أن هذا ممكن لكنه مشروط بتحقيق عدة عوامل:
1- التطور في المركز والأدوار: كما أشار أسطورة الكرة الهولندية ماركو فان باستن، قد لا تتحقق إمكانات يامال الكاملة إلا بانتقاله للعب في عمق الملعب، حيث يمكنه لمس الكرة أكثر والتأثير بشكل أكبر على مجريات اللعب. تكتيكات فليك التي تشجع على التحرك للداخل توفر المسار الطبيعي لهذا التحول.
2- تحسين الفعالية التهديفية: تظهر بيانات يامال أنه يسجل بمعدل قريب جدًا من أهدافه المتوقعة (في موسم 2024-2025، سجل 9 أهداف من أهداف متوقعة بلغت 9.8). للوصول إلى مستوى ميسي، يجب عليه أن يتجاوز أهدافه المتوقعة بشكل كبير وباستمرار. ميسي، على سبيل المثال، في موسم 2024 مع إنتر ميامي، سجل 20 هدفاً من أهداف متوقعة بلغت 11.8، أي أنه تفوق على التوقعات بـ 8.2 هدف. هذا هو الفارق الجوهري بين لاعب كبير ولاعب أسطوري، فهذا يتطلب تطوير الإنهاء أمام المرمى.
3- النضج البدني: اللعب في عمق الملعب يتطلب قوة بدنية أكبر وقدرة على التحمل للتعامل مع الالتحامات المستمرة من قلوب الدفاع ولاعبي الوسط. هذا جزء طبيعي من مسار نموه كلاعب شاب، وسيكون ضروريًا لنجاحه في دور أكثر مركزية.
في الختام، لامين يامال ليس مجرد موهبة عادية، بل هو حالة نادرة. وفي حين يبقى إرث ميسي فريدًا من نوعه، يمتلك يامال جميع المقومات الأساسية: الموهبة الفردية، والذكاء التكتيكي، والأهم من ذلك، البيئة التدريبية المثالية تحت قيادة هانز فليك التي يمكن أن تسهل انتقاله من جناح عالمي إلى لاعب محوري شامل يحدد هوية برشلونة وكرة القدم العالمية في العقد القادم.