الإثنين, يوليو 21, 2025
spot_img
الرئيسيةالثقافة والتاريخرحلة البحث عن أمل ضائع

رحلة البحث عن أمل ضائع

في وقت مضى، ليس بعيداً، كتبتُ مقالة بعنوان «زمن الرواية الليبية» نشرت في موقع صحيفة «بوابة الوسط». كان المقصود منها الاحتفاء بعدد من الروائيين الليبيين الجدد، من الجنسين، ممن ظهروا فجأة في الساحة، ودخلوا عالم الرواية من بابه الأمامي، وقدموا إبداعات روائية متميزة، أثارت إليها الانتباه، ولفتت إليهم الأنظار. وتمّ كل ذلك في وقت قصير نسبياً. ولم يكن المقصود بالوصف «كما اعتقد خطأ البعض» أن يكون نعياً بانتهاء زمن القصة القصيرة الليبية.

الجميعُ على علم مسبق بما أنجزه وما ينجزه من إبداعات قصصية، كُتّاب القصة القصيرة في ليبيا. تلك الإنجازات الإبداعية، وضعت القصة الليبية على رفّ خاص بها في المكتبة العربية.

ما يميّز القصة الليبية القصيرة أنّها على خلاف الشعر والرواية، تمكنت على يد الرواد من كُتّابها، من وضع أساسات عميقة ومتينة. مكّنت كل جيل جاء من بعدهم من البناء فوقه بثقة، وبتميّز وخصوصية. فتطاول البنيان عالياً في سماء الإبداع بتميّز ملحوظ، ضيّق المجال أمام القاصين الشباب الجدد، ممن حاولوا خوض كتابة القصة القصيرة. بمعنى أن القادم الجديد إلى ذلك العالم برغبة الانضمام والمشاركة في رفع البنيان القصصي الليبي، قد لا يجد له/ لها مكاناً، ما لم يكن يمتلك موهبة قصصية مميزة تؤهله لنيل ذلك الشرف.

وها هو قادم جديد إلى عالم القصة القصيرة الليبية، اسمه جمال الزائدي، ويسعى إلى إضافة لمساته الإبداعية القصصية، على أمل أن يجد له موطئ قدم في عالم القصة الليبية القصيرة إلى جوار من سبقوه، ويتمكن من ترسيخ موهبته القصصية، ويزيد في رسوخ وعلو بنيان القصة الليبية.

قبل هذه المجموعة القصصية الأخيرة: «إصبع سُبابة لحياة مخترعة،» الصادرة مؤخراً عن «دار السراج الليبية – طرابلس»، قرأتُ له مجموعة مقالات، نشرها في كتاب بعنوان «إيفيكوات»، وأعقبها بنشر كتاب آخر، بعنوان «هدرزة قهاوي».

نوصي بقراءة: تمثيلات سردية لتاريخ مصر في 5 قرون

في الكتابين المذكورين أعلاه، لاحظتُ أن جمال يكتب مقالاته الصحافية بنفس قصصي واضح. ويبدو أكثر تجلّياً في كتابه الأول «إيفيكوات»، وهو مصطلح شعبي ليبي، يطلق على حافلات نقل ركاب صغيرة الحجم «ميني باص».

وكنتُ أتساءل لماذا لا يتحوّل جمال الزائدي إلى كتابة القصة القصيرة؟ فهو – وإن لجأ إلى كتابة المقالة الصحافية كونه كاتباً صحافياً – قاص موهوب ومتمكن، يمتلك أدواته، وبعينين كعدستين قادرتين على الالتقاط الذكي لتفاصيل ما يدور أمامه وحوله. ترفده لغة سلسة تستجيب بجمال لعواطفه وأشجانه وتنقلات مشاعره وأحاسيسه، وتستحوذ على انتباه القاري، وتشدّه إليها. والأهمُّ من ذلك أنه يمتلك قلباً ينبض مع إيقاع نبضات الناس الذين يرافقهم يومياً إلى عمله، في تلك الحافلات الصغيرة الشعبية، في واقع يطحنهم. ويعبّر، بجمال فنّي، عن معاناتهم وأحزانهم وطموحاتهم وأحلامهم وانكساراتهم، وينقل القارئ إلى وسط تلك الأجواء بتفاصيلها الكثيرة المحزنة.

في قراءتنا لهذه المجموعة، يتبين لنا سريعاً أن هناك خيطاً، أو سلكاً يشدّها إلى بعض، مهما تباين اختلافها. ذلك الخيطُ أو السلكُ يشد شخصياتها في بحثهم عن أمل مفقود، في حياة يعيشونها بلا بوصلة، وفي واقع لم يعايشوه من قبل، أقرب ما يكون إلى «مولد وصاحبه غايب»، واقع حياتي مرتبك بشدة الفوضى، ومختل التوازن نفسياً إلى حدّ الفانتازيا. فشخصياتُ القصص أناسٌ عاديون مطحونون، يحاولون جاهدين الوقوف على أقدامهم في وجه محن وعواصف الحياة والزمن. أحلامهم مجهضة، وأرواحهم متعبة ومرهقة، يصارعون، نهاراً وليلاً، أمواجاً هادرة في بحر لم يألفوه، لإبقاء رؤوسهم فوق سطح الماء، حتى لا يغرقوا.

من الممكن أن تكون القصة التي تحمل عنوان المجموعة «إصبع سُبابة لحياة مخترعة» أفضل مثال. كونها «الثيمة» التي تبدو لي أكثر وضوحاً في قصص المجموعة. ومحاولة بطل القصة العجوز المتقاعد المحتضر، وهو يرى نفسه يعيش على الهامش، عائلياً، ومحاولاته العبثية لاستعادة حياته، لكي يعيشها من جديد، وتصحيح أخطائه، وليشارك في شؤون عائلته التي تجاهلها خلال سنوات عمره المهنية، ثم أمنيته المتأخرة والمستحيلة، لو أنه يتمكن من رفع إصبع سُبابته كي يرسم مستطيلاً في الفراغ، ويخترع حياة جديدة، يعيشها بديلاً لتلك التي أضاعها، أو ضُيعت منه!

رحلةُ البحث عن أمل ضائع لا تختلف عن رحلة البحث عن زمن ضائع، ووطن مفقود. وهي رحلة لا تخصُّ جمال الزائدي وشخصيات قصصه، بل هي، في رأيي، تتجاوزهم جغرافياً، لتكون محنة كل الذين فقدوا أوطانهم بين يوم وليلة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات