تؤدي عملية التطور الطبيعي للكائنات الحية إلى فرز وتمييز تلك الكائنات التي تكون الأكثر تكيفاً مع بيئتها. لكن يمكن للمختبرات تسريع وتيرة هذه العملية، بالتعرف على كيفية استجابة الخلايا الحية لضغوط معينة.
وعادةً ما تعتمد تجارب التطوّر الموجّه «directed evolution» هذه على كائنات بسيطة وراثياً، مثل البكتيريا أو الخميرة. إلا أن نظاماً جديداً يدفع بهذا النموذج نحو التجارب على خلايا حيوانات الثدييات (اللبائن) – المعروفة بصعوبتها الشديدة عند استهدافها بعلاجات وأدوية جديدة.
آلة بيولوجية
في هذا الصدد، عكف علماء في مختبر نيلي بجامعة سيدني و«معهد سينتيناري»، على مدار 3 سنوات، على بناء آلة بيولوجية مستوحاة من الفيروسات، تُسمى «بروتيوس (PROTEUS)» (وهي كلمة مختصرة لعبارة «تطور البروتين باستخدام الانتقاء»).
وتمثل هذه الآلة منصة مفتوحة المصدر تُمكّن من تطوير أدوات أكثر فاعلية لتحرير الجينات، وتطوير أدوية قائمة على الحمض النووي الريبوزي – المرسال (mRNA) بدقة أكبر، وبروتينات علاجية مُهندسة لتجنب الآثار الجانبية.
وتستغرق كل دورة 24 ساعة من التنويع والانتقاء والتضخيم؛ ما يختصر عملية تطور البروتين من أشهر أو سنوات إلى أسابيع فقط. وفي هذا السياق، يشرح كريستوفر دينيس، الباحث في جامعة سيدني أحد مؤلفي الدراسة: «يمكن لـ(بروتيوس) إنتاج تكيفات خاصة بالثدييات لم نكن لنتوقعها أو نطورها في أنظمة أخرى»، وفقاً لموقع «سبيكتروم» الهندسي الأميركي.
وطوّر الفريق عامل «نسخ – بروتين» يُنشّط التعبير عن جين مُستهدف – مع طفرات مفيدة فقط في خلايا الثدييات، بدلاً من البكتيريا. وعن ذلك، يقول دينيس: «الطريقة العامة للتطور الموجّه دورية، حيث نُولّد تنوعاً في جين معين، ونختار مدى ملاءمته للتحدي، ثم نُضخّم المتغيرات الجينية الناجحة لتكرار العملية. كل هذا يجري بهدف توجيه الجين نحو النتيجة المرجوة». ويضيف: «يتيح (بروتيوس) إنجاز الخطوات الثلاث في دورة تطور واحدة. ونكرر هذه الدورات مراراً وتكراراً. وفي بعض الأحيان نستغل شدة الضغط الانتقائي لتحدي بروتيننا بحق».
ونشر الفريق دراسته في مايو (أيار)، في دورية «Nature Communications» التي تتيح إمكانية الوصول إليها بشكل مفتوح، ما جعل بياناتهم وتسلسلاتهم متاحة للعامة كمورد أكاديمي.
«ذكاء اصطناعي بيولوجي»
كيف يعمل «بروتيوس»؟ يشبه «بروتيوس» الذكاء الاصطناعي البيولوجي (مجال حديث نسبياً يجمع بين الهندسة الحيوية ومبادئ التعلم الآلي لإنشاء أنظمة بيولوجية ديناميكية). إلا أن دينيس يُصوّر «بروتيوس» على أنه «آلة بيولوجية قائمة على التجربة والخطأ»، تتكيف مع متطلبات المستخدم.
وعلى عكس الذكاء الاصطناعي، لا يحتاج النظام إلى مشكلة أو هدف محدَّد ليتطور؛ فهو يُولّد تنوعاً جينياً بشكل طبيعي، بفضل تركيبته على فيروسات الحمض النووي الريبوزي المعرَّضة للخطأ.
ويقول دينيس: «تصوُّر هذا الأمر على نحو مشابه لكيفية تكيُّف وتطوّر فيروس (سارس – كوف – 2) عبر متغيرات (أنماطه المتحورة) من (ألفا) إلى (دلتا)، والآن (أوميكرون)، لكن ضغط الانتقاء الناتج عن مشكلتنا الجينية يُرشّح أي متغيرات (سيئة)، أي يلفظها جانباً؛ ما يُضخّم المتغيرات الجيدة. وفي المرحلة التالية، قد تستمر هذه المتغيرات الجيدة في التحسن، أو قد تدخل طفرة سيئة واحدة تُلغي الفائدة».
تصفح أيضًا: قشر السيليوم وبذور الشيا: أيهما أكثر إفادة للهضم وصحة الأمعاء؟
يبدأ مشروع «بروتيوس» بهندسة تسلسل جيني واحد للبروتين الذي يرغب الباحث في تطويره إلى جينوم فيروس. بعد ذلك، يُدخل الجينوم إلى خلايا الثدييات باستخدام عنصر تغليف يشبه القشرة لإنتاج حويصلات شبيهة بالفيروسات، وهي أكياس صغيرة من الجسيمات غير المعدية. تُضاف هذه الحويصلات بعد ذلك إلى الخلايا التي تحمل دائرة اصطناعية محددة، أو مشكلة وراثية كُلّف البروتين بحلها.
يوضح دينيس: «في غضون 24 ساعة، تنسخ هذه الحويصلات جينومها استعداداً للنمو، لكن هذه الخطوة من النسخ غالباً ما ترتكب أخطاء؛ الأمر الذي يُحدث طفرات على طول الجين الذي نريد تطويره. ويتحول جيننا إلى بروتين، ثم يواجه تحدياً داخل الخلايا بسبب المشكلة الوراثية المطروحة».
ويضيف: «إذا نجح في حل هذا اللغز، فسيُنتج المزيد من نفسه. لقد ربطنا بفعالية بين كفاءة البروتين وبقاء الحويصلات الشبيهة بالفيروسات؛ ما يُعزز مبدأ بقاء الأصلح». ويشرح دينيس أن لدى «بروتيوس» القدرة على إنتاج ملايين المتغيرات الجينية المحتملة بسرعة، عبر مئات الآلاف وحتى ملايين الخلايا، جميعها مختارة بالتوازي. كما يمكن توسيع نطاقه ليشمل المزيد من الخلايا، ما يوفر تنوعاً أوسع.
التعامل مع خلايا الثدييات
لماذا يصعب التعامل مع خلايا الثدييات؟ لا تؤدي كثير من البروتينات التي جرى تطويرها في بيئات التطور الموجّه التقليدية – مثل الخميرة أو البكتيريا، وظيفتها بكفاءة عند نقلها إلى الخلايا البشرية.
بوجه عام، تشكل خلايا الثدييات بيئات معقدة لتجارب التطور؛ فهي تنمو ببطء، وتحتوي على جينومات ضخمة، كما تنظّم سلوك البروتينات عبر تعديلات كيميائية غير متوقعة، منها تغيّرات كيميائية متنوعة تحدث بعد أن يُنتَج البروتين. هذه التعقيدات تجعل الأدوات التقليدية غير دقيقة بدرجة كافية لعزل المادة الوراثية والتعامل معها.
في هذا السياق، تقول كيت أدامالا، أستاذة مساعدة في قسم علم الوراثة وبيولوجيا الخلية والتطور بجامعة مينيسوتا: «يتطلّب التطور الموجّه في خلايا الثدييات عدداً هائلاً من الخلايا، لتغطية كل الطفرات المحتملة اللازمة لاختبار الشكل المطلوب من البروتين. إلا أن الباحثين في إطار نظام (بروتيوس)، تمكنوا من تجاوز حساسية خلايا الثدييات الطبيعية تجاه معدلات الطفرات العالية. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن اختبار عدد كبير من المتغيرات يتطلب معدل طفرات هائلاً».
وباعتبارها عالمة في مجال البيولوجيا التخليقية العامة وممارسة بمجال التطور الاصطناعي – وإن لم يكن في خلايا الثدييات – عبّرت أدامالا عن حماسها تجاه النتائج.
وتعلق بقولها: «كنت أتابع هذا المجال، لأنني أبحث عن طرق لجعل التطور الاصطناعي أكثر قابلية للتطبيق في الطب الحيوي، وهذا يعني أننا يجب أن نبدأ بالتعامل مع الأنظمة المعقدة، مثل خلايا الثدييات. لو كان مختبري يمتلك «بروتيوس»، لبدأت بتجربة البروتينات الغشائية، لأنها مجال واسع وله أهمية كبيرة من منظور الصحة البشرية، كما يُعد سؤالاً بحثياً أساسياً لفهم كيفية تفاعل الأدوية مع الأغشية».
إن العديد من الأمراض والأدوية الحالية ترتبط بالبروتينات الغشائية، مثل المواد الأفيونية، وأدوية فقدان الوزن، ومقاومة الفيروسات. هنا، تقول أدامالا: «يوجد كثير من الأهداف العلاجية على سطح الغشاء الخلوي، وتطوير هذه البروتينات لطالما كان تحدياً كبيراً، لأن التعامل معها صعب والعمليات الحالية بطيئة».
ومن خلال مستودع البلازميدات غير الربحي (Addgene)، سيكون نظام «بروتيوس» متاحاً لأي مختبر حول العالم يمتلك البنية التحتية المناسبة، وتدريباً في علم الفيروسات، ومهارات في البيولوجيا الجزيئية. وبحسب دينيس، تبلغ تكلفة عملية التطور بضعة آلاف من الدولارات، وهي فعّالة من حيث التكلفة خاصة عند استخدامها لتطوير عدة جينات بالتوازي.
هذا وقد قدّم الباحثون الرئيسيون المعنيون بـ«بروتيوس»، طلباً مؤقتاً للحصول على براءة اختراع في أستراليا لتصميم نظام ذكاء اصطناعي بيولوجي. ويقول دينيس إن الفريق يبحث الآن في مسارات تجارية لتسويق التكنولوجيا. ويضيف أن: «تطوير هذه الأدوات داخل خلايا الثدييات باستخدام بروتيوس يحمل إمكانيات هائلة لإنتاج بروتينات ذات فعالية معززة لعلاج الأمراض البشرية».