في معظم الجولات السياحية سيراً على الأقدام، تبرز أزقة صغيرة ذات أجواء تاريخية مميزة، تتيح لك اكتشاف المدن من منظور جديد، والوصول إلى التفاصيل الصغيرة التي قد تفتقدها في الرحلات التقليدية.
وإذا كنت ترغب في زيارة مكان للاستمتاع بالأزقة التاريخية، فإن مدينة القاهرة هي المكان المناسب تماماً لذلك؛ حيث تزخر المدينة بكثير من الحارات القديمة، التي تروي بين أرجائها قصصاً، وأحداثاً مصيرية من التاريخ.
وهي تحتضن بين جنباتها كذلك متاهة من الممرات الصغيرة، والمباني الأثرية، كل منها يروي حكاية آسرة تتيح لك التعمق في التاريخ والفن والتراث الثقافي.
وأي حديث عن الحارات المصرية القديمة في القاهرة، لا بد أن يشمل حارة «الدرب الأصفر» الواقعة في قلب القاهرة الفاطمية، والتي تمتد تحديداً في المنطقة الواقعة بين منطقة الموسكي وحي الجمالية متقاطعة مع شارع المعز لدين الله.
حارة الدرب الأصفر (صفحة شارع المعز لدين الله الفاطمي الفيسبوك)
عند زيارتها تبدو الحارة متحفاً أثرياً فنياً ثقافياً مفتوحاً للزائرين طوال اليوم، حيث تضم مجموعة ضخمة من معالم التراث، الذي لا يزال حاضراً في مكانه رغم مرور عقود كثيرة، وهي تشتهر بثقافتها وتاريخها وهندستها المعمارية المميزة.
وعلى نطاق أكثر حميمية، فإن الزائر لهذه الحارة التاريخية القديمة، يستشعر معالم الحضارة من حيث طريقة بنائها الفريد في تلك الحقبة، والتي توحي بمدى القوة والترابط والألفة بين ساكنيها رغم بساطة الحياة.
يتجسد ذلك في تقارب كثير من البيوت بعضها مع بعض، مع وجود ممرات ضيقة بين تلك البيوت المُزدانة بالزخرفة والمشربيات ذات الطابع المستوحى من فن العمارة الإسلامية. ستبهرك مشربيات بيوت الحارة التي تسمح بدخول الهواء، ومنع دخول الشمس، وتحقيق نوع من الخصوصية يتمتع فيه الساكن بالرياح اللطيفة والهواء النقي، مع الضوء الخافت الهادئ، إضافةً إلى حجب الرؤية عن المتلصصين الراغبين في النظر إلى داخل البيوت.
بيت مصطفى جعفر (صفحة الوعي الأثري الفيسبوك)
اقرأ ايضا: كيف تساوم حين لا يكون هناك سعر محدد؟
حين تسأل أهل الحارة عن سبب تسميتها، فستجد الآراء تختلف حول ذلك، فهناك من سيذكر لك أن ذلك يعود إلى شهرتها بطلاء مبانيها قديماً باللون الأصفر، وهناك من سيشير إلى بعض ورش النحاس التي لا تزال موجودة بها منذ عقود، وهناك يمكنك زيارة بعض ورش المشغولات النحاسية اليدوية واقتناء أعمال متميزة. وتتعدد المزارات في هذه الحارة التي تأخذك في رحلة عبر التاريخ، حيث البيوت الأثرية التاريخية الشهيرة، ومنها بيت السحيمي الأكثر شهرة، وينسب إلى آخر ساكن له وهو الشيخ «أمين السحيمي»، من كبار علماء الأزهر، توفي عام 1928. ويوصف البيت بأنه الوحيد المتكامل الذي يمثل عمارة القاهرة في العصر العثماني بمصر.
يحتوي البيت على عدة مبانٍ تطل على فناء واسع، وحديقة خلابة بمجموعة من المشربيات الخشبية الرائعة، كما يضم قاعات استقبال فريدة من نوعها مجهزة بأثاث يمثل روح العصر الذي بني فيه.
الرائع أن البيت حوّلته الدولة المصرية إلى مركز للإبداع الفني بعد ترميمه وإعادة افتتاحه عام 2000، لتتشابك بذلك الحداثة مع التقاليد الراسخة، وتعيش الأجواء العصرية في البيوت الأثرية بشوارعها المزدحمة. فإذا أردت التزود من الثقافة المصرية والفلكلور مثل الأراجوز وخيال الظل، أو حضور حفل للغناء والشعبي، فيمكنك حضور بعض فعالياته المستمرة طوال الشهر.
بيت السحيمي في حارة الدرب الأصفر (الصفحة الرسمية للبيت الفيسبوك)
وأنصحك بالبحث خصوصاً عن موعد حفل فرقة «النيل للموسيقى والغناء الشعبي»، فهي من أهم الفرق المصرية التي تقدم الموسيقى التراثية والشعبية.
وبجوار «السحيمي»، سيلفت انتباهك بيت أثري آخر هو «بيت مصطفى جعفر السلحدار»، أحد أعرق وأجمل البيوت العريقة الكائنة بالحارة، وله قصة يحكيها الجميع، وهو أنه بني مكان قهوة تدعى «المواردي»، حيث جلسات المصريين و«جدعنة» أبناء المكان والفتوات.
ستجد شبابيك المنزل المُطعمة بالحديد وأبوابه العتيقة المزخرفة بالنحاس، وواجهته المصنوعة من المشربيات تخطف نظرك.
تحفة أثرية أخرى في حارة «الدرب الأصفر» تستحق الزيارة، إنه مسجد «سليمان أغا السلحدار»، الذى اكتمل بناؤه عام 1839، ويضم المسجد سبيلاً وكتاباً، ويعدّ من أروع المساجد التي شيدت في عصر السلطان محمد علي باشا. يتمتع المسجد بالطراز العثماني، ويتميز بواجهاته المغطاة برخام أبيض مدقوق به زخارف وكتابات، بينما صُنعت نوافذه من البرونز المصبوب بزخارف مفرغة.
صحن مسجد (سليمان أغا السلحدار) موقع وزارة السياحة المصرية
وعلى مقربة من الحارة تستطيع أن تتسوق وتحمل كثيراً من السلع والهدايا التذكارية بتوقيع الأصالة والفن اليدوي المصري الممتد عبر التاريخ؛ توجه إلى بازارات «خان الخليلي»، أو اسأل عن ورش حي «الجمالية» العريق، وسوق الأقمشة والعطور والتوابل. ومنذ زمنٍ بعيد، تستقطب حارة «الدرب الأصفر» عشرات الموسيقيين والكتاب والشعراء ومصوري الفوتوغرافيا والتشكيليين البارزين، الذين ألهمهم كثير من الأعمال الفنية، ولا تزال وجهة جاذبة للزوار الباحثين عن ذكريات القاهرة القديمة، وللمهتمين بالتاريخ والثقافة، فإذا كنت من بين هؤلاء فلا تتردد في زيارة «الدرب الأصفر».