تجسد صورة «المقص» على غلاف المجموعة القصصية «الرجل الذي لا يُقطع لسانه» للقاص السعودي عبد الله الدحيلان معنى العنوان، بإظهار المقص وقد قطع الفعل «يُقطع» إلى مقطعين «يُقـ/طع»، تاركاً الكلمة «لسانه» سليمة معافاة. عنوان جاذب للانتباه ومثير. لا أخفي أنه أثار فيَّ موجة فضول وتشوق لقراءة قصة هذا الرجل قبل أي قصة أخرى، كيما أرى كيف ولِمَ لسانه لا يُقطع، وما الذي يجعله استثناءً ومختلفاً عن الآخرين الذين يفهمُ القارئ من استثنائيته أن ألسنتهم تقطع، أو قابلة للقطع.
ولكن ما إن قرأت عنوان القصة «الغربان»، قررت البدء بها. فكانت بداية تجربة قراءة لقصص في غاية الإمتاع والوضوح الغامض. هذه المقالة محاولة لإسقاط بقع ضوء على بعض الثيمات التي تعالجها المجموعة، وعلى بعض ملامحها الفنية والجمالية.
هيمنة السارد العليم
للسارد العليم -السارد بضمير الغائب- حضور مهيمن في المجموعة؛ إذ ينفرد بالسرد في سبع عشرة قصة من قصص المجموعة العشرين، ويظهر شريكاً في السرد في قصتين. يراوح في فعله وأدائه السردي بين التخفي والظهور، والحياد والانحياز في موقفه من المسرود. ففي الفقرة الاستهلالية في «أصحاب السعادة» يظهر في منتهى الحيادية؛ وهو يصف خروج القرية إلى الشوارع، بطريقة كاميرا تجوس خلال المكان تصور الحشد بلقطة (Pan/) مؤسسة: «خرجت القرية عن بكرة أبيها، في عادة سنوية يلهج الجميع فيها بالدعاء ألا تنقطع أو تتأخر عن موعدها… في مقدمة الصفوف يقف العمدة منفعلاً…». ويستمر في حياده إلى نهاية الفقرة من دون النبس برأي أو بتعليق على المشهد.
على النقيض منه، يضفر السارد العليم في قصة «الغربان» رأيه ومشاعره تجاه الغربان في نسيج الخطاب. فعندما يشير إلى هيئة الغربان القبيحة، فإنه يسقط القبح عليها، ويصفها بأنها سيئة السمعة، والسوء آتٍ منه؛ لأنه لا يوجد في عالم القصة شخصية مبئرة من الغربان يمكن القول إنه ينقل إلى القارئ رأيها ومشاعرها تجاه الغربان الأخرى. وتؤكد الفقرة الأخيرة عدم حياديته، وهي في رأيي فقرة فائضة، يستحضرها من خزينه المعرفي في الذاكرة، وليس لها علاقة مباشرة بالحدث، وهو وجود الغربان في المدينة، فبالإمكان محوها من القصة، فسرد الأحداث انتهى بالجملة الأخيرة من الفقرة السابقة: «لذا تُعرض عن هذه الحقيقة بالتباهي، بأنه تم اصطفاؤها لأداء مهمة مقدسة، لا يمكن تعليلها أو الإحاطة بها» (17).
بدايات التوتر المعرفي
بعد أن يبسط أمام القارئ مشهد الغربان وسيطرتها على المدينة جواً وأرضاً، يختم السارد الفقرة الأولى بالعبارة: «بغية استراق السمع، ورصد تحركات الغافلين». أعتقد أن هذه العبارة تجيب عن تساؤلات القارئ عن معنى ودلالات مشهد الغربان الذي ربما يُذكِّره بمشاهد أسراب الطيور في فيلم ألفريد هيتشكوك «الطيور». كان بالإمكان ذكر العبارة السابقة في البداية، ولكنه كان سيجازف لو فعل بخسارة فرصة إثارة اهتمام وفضول القارئ، لمواصلة القراءة لمعرفة ما يكمن وراء وجود الغربان.
اقرأ ايضا: مصادر لـ«الشرق الأوسط»: لينا بو ساحة على أبواب الاتحاد
لدى السارد معرفة كاملة بالغربان ووضعها في الحكاية، بيد أنه لا يكشف كل ما لديه. يمسك ببعض المعلومات، فتنتج عن ذلك فجوات في السرد تنشأ بسببها حالة عدم التساوي المعرفي بينه (السارد) وبين القارئ. ويتولد من هذا اللاتساوي المعرفي ما يسميه جيمس فيلان «cognitive tension»، أترجمه هنا «التوتر المعرفي»، آخذاً في الاعتبار الترجمتين الأخريين (إدراكي وعرفاني) للكلمة «cognitive». يدفع التوتر المعرفي القارئ إلى الاستمرار في قراءة النص، لعلَّه يلتقي بما يخفف حدته أو يبدده تماماً.
عند تأمل نصوص المجموعة، تبرز حقيقة توظيف الدحيلان للتوتر المعرفي في الجملة الأولى أو الثانية من الفقرة الاستهلالية في معظم النصوص، لغاية الإمساك بانتباه القارئ وإثارة فضوله. في قصة «الخائن» -مثلاً- ورغم احتمالية تخمين القارئ أن الخائن هو المقصود في الجملة الأولى «حتى الآن مضى شهران متواصلان دون أن يخرج من منزله، فهو لا يعلم كيف سيتعامل معهم بعد ذلك اليوم المشؤوم، لم يعد منهم» (19)، سيكون المشار إليهم بـ«معهم» و«اليوم المشؤوم» وسبب أنه «لم يعد منهم» ألغازاً يتعذر حلها من دون الاستمرار في القراءة. وفي «السائل» ينتظر القارئ حتى الفقرتين الثالثة والرابعة ليعرف أسباب انقلاب حال القرية، والتوتر والقلق اللذين انتابا أهلها، وسبب خروج موكب رئيس الشرطة إلى مركز القرية. والفقرة بين الفقرتين (الأولى والثالثة) استطراد أضاف معلومات عن الساحة في مركز المدينة وارتباطها «بحادثة فارقة» في تاريخ القرية. ويتعين على القارئ أن يقرأ الفقرة الأولى من «أصحاب السعادة» (10 أسطر)، ليكتشف في الفقرة الثانية أن مَن «خرجت القرية عن بكرة أبيها لاستقباله» هو ضيف اعتاد زيارة القرية -مسقط رأسه- كل عام. وتدين القرية له ولأبيه الذي خلفه في العمل لدى علية القوم بوضع اسم قريتهم على الخريطة.
التجسس ومرادفاته
ويشكل التجسس بعناصره ومرادفاته: التنصت، والتلصص، واستراق السمع والنظر، والتفتيش، والمراقبة، ثيمة رئيسة ظاهرة، تتخلل عدداً من قصص المجموعة: الغربان، معيض، سوء المنقلب، جلبة، الرأس والجسد، اليد المبروكة، المواجهة. في «الغربان» التي تؤسس هذا الاتجاه، وأحد الملامح المميزة للمجموعة، يستلهم المؤلف من أساطير سكان أميركا الأصليين أسطورة الغراب بوصفه محتالاً/ مخادعاً «trickster»، ومغيراً لشكله «shapeshifter». يقول السارد عن الغربان واحتلالها كل شبر من المدينة وسمائها: «فهي في الشوارع والأزقة ومواطن الرزق، وفيها تتشكل حسب الحاجة، سواء على هيئة بشر أو شجر أو حجر… وتكمن في الزوايا… بغية استراق السمع، ورصد تحركات الغافلين» (17).
وتتعمق علاقة الغربان بالأسطورة بإضفاء القداسة على مهمتها، فيما تبدو إشارة ضمنية إلى غربان «الإله أودن» في الأسطورة الإسكندنافية. في الأسطورة، كان لأودن غرابان «هيوغن وميونن»، كانا بمثابة عيونه وأذانه، يطلقهما عند انبلاج الفجر من «فالهالا» إلى «مِدغار» عالم البشر ليتنصتا ويتجسسا على البشر، ويؤوبا بالأخبار عندما يحل المساء. ولكن قصة «الغربان» لا تشير ولا تلمح إلى مَن في المدينة يكلف الغربان بمهمتها المقدسة.
ويمثل «معيض» في القصة المعنونة باسمه حالة متطرفة في التنصت على المكالمات الهاتفية بحكم عمله، فقد أصيب -لطول ممارسة التنصت- باضطراب بارافيلي، فتحول إلى متنصت تثيره المكالمات الخاصة، خصوصاً مكالمات أمه مع صديقتها. وينتهي به المطاف بعد تقاعده إلى طلب نسخة من مكالمات أمه وصديقتها متحججاً بالمحافظة على خصوصيتها. ولكن طلبه يُقابل بالرفض.
وتلعب الكاميرا، آلة التلصص والرصد والمراقبة، دور الشخصية المركزية والمبئرة في قصة «سوء المنقلب»، وهي تشهد آخر اللحظات في حياتها العملية في آخر موقع مراقبة مثبتة فيه. تسترجع الأحداث التي شهدتها واسترقت السمع إليها، والأماكن التي تنقلت بينها «خلال سنوات عمرها» (66). تسهم «سوء المنقلب» مع قصتَي «الغربان» و«الغابة» في خلق الملمح المضاد للمحاكاة وغير الطبيعي في المجموعة، عبر منح المؤلف صفات بشرية «anthropomorphization» للجماد والطير والحيوان. فالكاميرا في القصة تفكر وتتذكر وتشعر بالتعب بعد أن بدأت الشيخوخة تدب فيها. لقد اختار المؤلف لحظة حاسمة لتسرد الكاميرا ذكرياتها، قبل أن ينتزعها فني الصيانة ويرميها في حاوية كرتونية للأشياء التالفة، ويستبدل بها كاميرا جديدة.
* كاتب وناقد سعودي