عادت أعداد من السودانيين اللاجئين والنازحين إلى السودان بعدما استعاد الجيش سيطرته على العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة المجاورة، لكن آمال الكثيرين منهم قد تبددت بعدما صُدمت بواقع مرير في مدن محطمة تغيب عنها غالبية الخدمات الأساسية والبنية التحتية.
وفي هذا الصدد، قالت نجود ساتي، التي عادت إلى السودان بعد أكثر من عام من اللجوء في مصر، لتبدأ حياتها من جديد في بلدها الأم، إن الوضع في السودان أصبح أكثر قسوة كثيراً من ذي قبل. وأضافت لــ«الشرق الأوسط»: «مثل الكثيرين غيري، شعرت بسعادة كبيرة عندما تم إعلان تحرير الخرطوم، وأصبح بإمكاني العودة إلى بلدي ومنزلي». وتعول نجود (47 عاماً) أسرة مكونة من فردين، وكانت تسعى إلى أن تبدأ عملها في السودان من الصفر «بتأهيل متجري الصغير لتوفير معاشنا اليومي، لكننا لم نجد شيئاً، إذ تمت سرقة منزلنا بالكامل».
ويتواصل يومياً تدفق آلاف اللاجئين السودانيين العائدين إلى السودان، كي يجدوا أنفسهم محاصرين في ظروف معيشية صعبة للغاية، جراء انعدام فرص العمل وفقدان الخدمات؛ ما دفع أعداداً كبيرة منهم إلى الاعتماد على المنظمات الخيرية المحلية التي توفر الطعام للمحتاجين، وتُعرف في السودان باسم «تكية». ووفقاً لمنظمة الهجرة الدولية، فإن ما يقدَّر بـ 1.3 مليون سوداني عادوا إلى البلاد، لكن غالبيتهم لن يتمكن من تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم، بينما تتحدث التوقعات عن بلوغ عدد العائدين 2.1 مليون شخص بحلول نهاية العام.
عائدون إلى العاصمة السودانية يتلقون مساعدات غذائية سعودية في أم درمان ٢٤ أغسطس (أ.ف.ب)
قال جعفر عثمان، أب لأربعة أطفال عاد إلى منزله بمنطقة شرق النيل: «الحياة صعبة للغاية. فقدت كل شيء، همي الأساسي هو العثور على أي عمل أعول به أسرتي». وأضاف عبر اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» قبل الحرب: «كنت أعمل في بيع الخضراوات والفواكه، لكنني اضطررت للعمل عامل بناء نظير 15 ألف جنيه سوداني في اليوم (نحو 4 دولارات)، وهو ما لا يكفي حتى لوجبة واحدة في اليوم».
وتُقدر بيانات صندوق النقد الدولي أن أكثر من 3 ملايين سوداني فقدوا وظائفهم خلال الحرب. ومن بين أكثر المتضررين فئات العاملين في القطاع الخاص والأعمال الحرة، ويمثلون الغالبية العظمى من اللاجئين والنازحين الذين تأثروا مباشرة بالحرب.
وأكد خبراء اقتصاديون أن القطاع الخاص هو الأكثر تضرراً من الحرب، بوصفه أكبر مشغل للعمل والوظائف في السودان.
ووفق الخبير الاقتصادي، محمد الناير، فإن من الصعب في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد أن تتوفر فرص العمل سواء في الأعمال الحرة أو غيرها.
وقال: «معظم العائدين يعتمدون على التحويلات الخارجية التي تأتيهم من الخارج، وهي مصدر الدخل المستقر في الوضع الحالي». وأضاف أن عودة المواطنين إلى منازلهم تساعد على تحقيق الأمن، وتشجع الدولة أن تسرع في معالجة توفير الخدمات الضرورية لعودة الحياة تدريجياً إلى طبيعتها.
قد يهمك أيضًا: لقاءات مصرية مكثفة في واشنطن بشأن السد الإثيوبي
وأشار إلى أن الحياة في مناطق كثيرة من مدينة أم درمان، ثاني أكبر مدن العاصمة الخرطوم، التي ظلت خارج نطاق القتال، أفضل كثيراً من مدينتي الخرطوم وبحري. ولفت الناير إلى أن أعداداً كبيرة من السودانيين فقدوا وظائفهم بسبب الحرب، معظمهم يعمل في شركات القطاع الخاص التي منحت العاملين إجازة دون مرتب، أو فصلتهم من العمل؛ ما زاد معدل البطالة بصورة كبيرة، لكن في المقابل نجح جهاز الدولة في القطاع العام في التكفل بدفع رواتب الموظفين، طيلة فترة الحرب.
وتابع الناير أن هناك عودة تدريجية ملحوظة للنشاط التجاري في الأعمال الصغيرة والمتوسطة، من خلال فتح الأسواق والمحال التجارية التي يمكن أن تستوعب أعداداً من العائدين، وتوفر لهم مصادر دخل مؤقتة.
مستشفى محترق تظهر عليه علامات الدمار جراء القصف المدفعي في الخرطوم (رويترز)
بدوره، قال الخبير الاقتصادي، هيثم فتحي إن التحدي الأكبر الذي يواجه غالبية العائدين الذين فقدوا كل شيء في الحرب، هو تأمين مصدر دخل لمعيشتهم، ولا بد من بناء الأسواق، ودعم سبل العيش عبر الوظائف الحكومية والخاصة.
وأضاف أن العودة الطوعية تحكمها عوامل عدة تتعلق بالسكن والخدمات واستقرار الوضع المعيشي والأمني، وقيام الدولة بمعالجة الانقطاع المستمر في الكهرباء والمياه، بوصفها احتياجات أساسية يومية للسكان.
وأشار فتحي إلى أن عملية إعادة الإعمار تحتاج إلى دعم خارجي كبير يفسح المجال للشركات وأصحاب رؤوس الأموال بدخول السوق السودانية، وبدء مرحلة جديدة في بناء بلد أنهكته الحرب. وبحسب الخبراء والمختصين، فإن الحرب الدائرة في السودان تسببت في تدمير القطاع الصناعي بنسبة 75 في المائة والقطاع الخدمي بنسبة 70 في المائة.
وتوقع بنك التنمية الأفريقي في أحدث تقرير له في يوليو (تموز) الماضي، انكماش الناتج المحلي الإجمالي في السودان بنسبة 0.6 في المائة خلال عام 2025، مع استمرار ضعف الأنشطة الاقتصادية.
وأدى الصراع المسلح بين الجيش و«قوات الدعم السريع» إلى تدمير القطاع الصناعي الرئيسي في مدن العاصمة المثلثة – الخرطوم وبحري وأم درمان – بما يمثل نحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وستستغرق استعادة عافيته أعواماً عدة، ما لم تقف الحرب فوراً.
وتُقدِّر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف السكان – نحو 26 مليون شخص – يواجهون شحاً حاداً في الأمن الغذائي، مع وجود 8.5 مليون شخص في حالة طوارئ (المستوى الأخير قبل المجاعة)، بينما يواجه 800 ألف شخص خطر المجاعة.