- اعلان -
الرئيسية الثقافة والتاريخ الشعر بين نداء العاشق وهتاف الحياة

الشعر بين نداء العاشق وهتاف الحياة

0

تسيطر هموم العشق وما يثيره من مكابدات عاطفية على أجواء ديوان «عاشقة ولا أنظر في النهر» الصادر عن دار «سراس» للشاعرة التونسية آمال موسى، ويتحول كينونةَ وجودٍ وحياة؛ فلا تستحضر الشاعرة العشق برموزه ودلالاته كقيمة مطلقة مجردة، لا علاقة لها بالواقع المعيش، إنما هو ابن هذا الواقع، من نبعه يستفي فيضه وتوهجه، وانطفاءه وذبوله أيضاً. يحيل إلى ذلك على نحو لافت، عنوان الديوان، الذي يكرس برمزيته لنهر الذات الخاص، ويعلي من شأنه، في مقابل غض النظر عن النهر بمفهومه المادي المباشر الماثل للعيان، يعزز كل هذا شعرية تعتمد على المكاشفة والبوح، تغلف نصوص الديون، وتتقلب ما بين الوضوح والجرأة والحدة، والهدوء المفاجئ، الذي يبدو بمثابة استراحة مؤقتة للذات من مكابدات هذا العشق؛ تتأمل تحت مظلتها الواقع والأشياء من نقطة الصفر، وتلملم ما قد تناثر في قلب النص «المتن»، وعلى الخواف من فتات، يشكل خليطاً من الأفكار والرؤى البسيطة والمعقدة التي تحكم الوجود، وتنتهك دورانه الطبيعي بتعقيدات الفلسفة التي تحبس الحياة في طوفان من الأسئلة العقلية ذات المنطق المراوغ.

وسط كل هذا تبحث الشاعرة عن نقطة تلمّ شتات المتناقضات، ربما تستقيم العلاقة، وتصبح أكثر وضوحاً بخاصة بين العلة والمعلول، أو بين الدال والمدلول. اللافت أيضاً أن البحث عن هذه النقطة، يظل مفتوحاً بحيوية على شتى العناصر والأشياء التي تشكل حركة الحياة والوجود، فلا بأس أن تستدعى هذه النقطة من عوالم الطفولة تداعب من خلالها الأم، حيث تتصدر صورتها المشهد، وتتذكر ابنتها الشاعرة كيف أنها لم تعجن الخبز يوماً، وأنها كانت تتمنى أن تتعلم منها خبيزه وتشم رائحته الشهية، وهو ما يطالعنا في النص الذي تستهل به الديوان «أَعلَّمُني عجينَ الخبزِ بكلِّ شيء»، حيث اللعب على وتر الزمن، وفي لحظة عبثية تبدو فيها الذات وكأنها تدور على نفسها تحت رحاه الثقيلة الوطأة، فتقول في مقاطع من النص:

«ها أنّيِ في اللحظة الصفرِ من العشقِ

في اللحظة الصفرِ من الكتابةِ

في اللحظة الصفرِ من المعنى

في اللحظة الصفر من المتعةِ

في اللحظة القصوى من الملّلِ

أُجالسُ عاشقاً مُنهكاً وجان بودريار ورولان بارت

وجسداً يحملُ حلُماً تجاوز الشهرَ التّاسعَ بعشرةِ أيامٍ.

قلتُ لبودريار:

الدّالُ والمدلولُ عادا إلى الصفر أخيراً

عادا قُبَيلَ موسمِ الحصادِ بقليلٍ، يُلملمانِ شتاتَ

معنىً جديدٍ

أخضرَ لم يبلغِ السعادةَ بعدُ

لم يأخذْ من السّماءِ كفايتَه من الماءِ

بينَ الصِّفرِ وإكسيرِ الحياةِ سرٌ لم يهتكْهُ بودريار.

الصِّفرُ ليس موتاً

ليس وحدةً

الصِّفرُ بدايةُ حبٍّ جديدٍ

تحرُّشُ الفكرةِ بِجسدي

واستسلامي لها

زفافٌ بينَ دال ومدلولٍ في ذروةِ الانحرافِ بالكلماتِ

هما أنا وأنت يا عاشقي المنهك».

نلاحظ هنا أن الشاعرة استخدمت دال الصفر، ليس بمعنى النهاية أو العدم، إنما بمعنى المقدرة على التشبث بإرادة الحياة، وكأنها في هذه النقطة الصفرية تحديداً تولد بشكل جديد. وسط الانهاك تستدعي صورة الأم والخبز، ولا يتسم هذا الاستدعاء بالحنين إلى الماضي فقط، إنما باللعب معه أيضاً، كأنه حلم يتراءى في المنام:

«قال لي رجلٌ رأيتُه يمسكُ بِيَدي في المنامِ:

الحياة ترتشفُ قهوتَها باردةً.

يا أيتّهُا الحياةُ:

أمي من نساءِ المدينةِ

لم تعجنِ الخبزَ يوماً

لم أتعلَّمْ صُنعَ الخُبزِ

ما جدوى القراءةِ والكتابةِ والأناقةِ والانتباهِ للتفاصيل

والقبضِ على الشياطينِ من وراءِ الملائكةِ؟

لم أتعلَّمْ عجْنَ الخُبزِ

وعندما جرَّبتُ

هالني ما يتطلَّبهُ الخُبزُ من عِنادٍ

لستُ عنيدةً بِما يكفي

هكذا اعترفَ لي عجينُ الخبزِ الذي لم أُفلحْ في مزيدِ

من استفزازِ بياضِهِ».

في المطبخ يرافقها هذا المشهد، كظل لها بخاصة في نص «أنا والبيضة شقيقتان» فتحاور كائناته «الملاعق والشوك والسكاكين والأطباق» وغيرها، وكأنها عناصر حية، تتمتع بعلائق سرية لوحدة وجود، تملك القدرة على تفكيكه وصياغته من جديد، وتوهم بأن ثمة حواراً متقطعاً ومتخفياً بينها وبين هذه الكائنات يتسرب في نسيج بعض النصوص ويبلغ ذروته من التهكم والسخرية حين يستحضر رموزاً من أبرز صانعي الفلسفة والفكر والحكمة في العالم.، مثل جان بودريار، رولان بارت، كارل ماركس، ميشيل فوكو، أرسطو، أفلاطون، كما تقول في هذا النص:

«أشياءُ كثيرةٌ في مطبخي تُشبهني

أتماهى معَ هذه الأشياءِ ونُؤنسُ بعضَنا.

الماءُ والنّارُ والكهرباءُ

الخضارُ والفواكهُ الممتلئةُ بالماءِ والفواكهِ الجافَّةِ

قد يهمك أيضًا: ضد شعرية «الكليشة»

الصحونُ والكؤوسُ

وأواني الطبخ النّحاسية تروي سيرةَ امرأة من

القيروان

ملاعقُ صغيرةٌ وكبيرةٌ في مقاساتِ أحلامي

النّحيفةِ والمُكتنزةِ قليلاً

وسكينٌ واحدة.

لا أحبُّ السّكاكين.

في السَّكاكين يختبئُ خوفُ هابيلَ».

………

«المطبخ غرفةٌ تستيقظُ فيها الشهواتُ

حسابُنا البنكيُّ المبعثرُ داخلَ الثلاجةِ وبينَ الطاولةِ

وسلة المُهملاتِ.

البعضُ يكتبُ

البعضُ يُعدُّ طعامَه

وأنا أكتبُ وأطبخُ

بعضي يُعِدُّ طبقاً عاشقاً لقطبٍ قد يطرقُ بابَ مطبخي

وكلي يكتبُ الشّعر لبطلٍ صنعتُه يدايَ بالماءِ

والخيالِ ورطلٍ من شهد الملكات.».

تخلص الشاعرة في هذا النص الطويل الشيق إلى إحساس ما، يتدفق بشكل تلقائي أن «في هذا المطبخ/ ما يشبه وحدة الوجود/ أو كوكتيل من عصيرِ الحكمةِ والحشائشِ البريّةِ/ تسكبه كل صباح.». إنها إذن حالة وجود، لا تنفصل فيها الأشياء عن ظلالها، ولا يمكن النظر لأحدهما بمعزل عن الآخر، تماماً كما في العشق، حيث لا ينفصل العاشق عن المعشوق، بل يبتعدان أحياناً لتضيق المسافة بينهما، ويصبحان أقرب، بل أكثر انسجاماً مع مشاغل الروح والجسد. فليس ثمة قطيعة عدمية بين البشر والأشياء، بقدر ما هي مجرد وجهات نظر متباينة، لا تلغي وجود الآخر، بل تحرص عليه في أقصى لحظات الحب والعشق؛ أقصى لحظات الحزن والبكاء… ربما لذلك تهدي الشاعرة الديوان إلى العشق في صورته المطلقة قائلة: «إلى من رفعه العشق إلى درجات اللهب وتداوى به شهدا ومرارة. إلى من تدثر بالعشق في شتاء الحياة وخريفها… إليه هذه القصائد المضمخة بعناصر الوجود الأربعة».

يقع الديوان في (117) صفحة ويضم 14 قصيدة، تنهل من براح قصيدة النثر، بل إنه يسمي المرأة باسمها «قصيدة نثر»، في ظلالها تقلب الشاعرة دفتر أيامها، محاولة الإمساك بالبئر الأولى للحنين، وعلى سبيل السخرية من الزمن تقول:

«حتى الخيبات أشتاقُ إلى بداياتها.

أحنُ إلى حربٍ شرسة عاشها أجدادي

أصوبُ فيها البندقية نحو هذا الحاضر

فيسقطُ قتيلاً،

وينزفُ طحيناً أبيضَ ورقائق بطاطا معلبة وبيبسي كولا.

أحنُ،

إلى من ألقى بي في كل هذا الحنين.» في القصائد الأخيرة بالديوان تتكثف معاني الغربة إلى حد الشعور بالعزلة والاستلاب أحياناً، وتنجح الذات الشاعرة في مواجهتها وترويضها وتضفيرها في بنية الصورة الشعرية التي تنفتح بشكل أكثر اتساعاً على روح الحكاية والتفاصيل بما تضمره من روائح حسية ومعنوية توثق للحالة في مجريات الحياة، كما يذهب الشعر إلى الأشياء البسيطة ونزقها المباغت، مثل «شوق الإبرة للخيط»، «القط البري» «رجل البلدية (حارق الأمل)» وتتناص القصائد مع معطيات من التراث الديني، لكنها مع ذلك تتحاشى السرد كفعل قص، وتتعامل معه كوميض يضيء فضاء المشهد وينميه درامياً وجمالياً. هكذا ترسم الشاعرة صورة العاشق الذي تتمنى في نص بعنوان » فراغ الوردة من الاستروجين» تقول فيه:

«الشفاه فهمتْ كم يهابُ الموتُ القبلةَ

شفاهُك تثأر من صورة العاشق السخيف

عاشقٌ تاب عن المرآة

لا يذهب إلى النهر

عاشقٌ تعلَّمَ الزهو بوجه من يُحب

لا بوجهه

أن ينحني بشهامةٍ للماء

ويركب أعلى موجةٍ في الشعور حتى يصبحَ وجههُ مرآةً للنهر.

عاشقٌ،

يُلاعب الأزمنة

يُبارزها

لا يخشاها

يُربكُ عقارب السّاعة

يمنحنا ساعةً في اليوم يغلبُ فيها الضوءُ الظلمة

ليطمئنَ فينا الأملُ ويكبرَ.«

في الختام، هذا ديوان مهم ومتميز في تجربة الشاعرة آمال موسى، أرجو أن أكون في هذه الإطلالة أمسكت بشيء من خيوط هذا التميز، أو العشق الذي يوحد نداء العاشق بهتاف الحياة.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version