قبل انتهاء ساعات العمل، يوم السبت، السابع من مايو (أيار) 1932، يصل الروائي الأميركي، الحائز جائزة «نوبل»، ويليام فوكنر، إلى استوديو شركة «مترو – غولدوين – ماير» (MGM) في كلفر سيتي، مقاطعة لوس أنجليس. لم يكن لديه صورة واضحة لطبيعة العمل الذي تجشم عناء السفر من أجله، فقد فاجأ من استقبلوه بقوله إن لديه فكرةً جديدةً لـ«ميكي ماوس»، لكنّ النجم السينمائي سام ماركس أخبره أن أفلام «ميكي ماوس» تصنعها «والت ديزني»، وأنه سيُكلّف بالعمل على فيلم للممثل المسرحي والسينمائي والاس بيري. لكنّ الروائي الكبير تساءل فجأة: من هو بيري..؟ كاشفاً أنه لا يعرف هذا الممثل ذائع الصيت. وردت هذه القصة في كتابين هما: «جوزيف بلوتنر: ويليام فوكنر.. سيرة غيرية، 1974» و«ستيفن ب. أوتيس: ويليام فوكنر.. الرجل والفنان، 1987».
لكنّ ويليام فوكنر، الروائي الجنوبي القادم من أوكسفورد، ميسيسيبي، الذي فاجأهم بضبابية الفكرة في ذهنه عن العمل الذي ينتظره، سيذهلهم فيما بعد بإنجاز معالجة أربع قصص خلال أربعة أسابيع، ليلفت بذلك انتباه المخرج هوارد هوكس الذي أُعجب بأسلوبه، واشترى قصةً قصيرةً له منشورةً في صحيفة «ساتردي إيفننغ بوست». وطلب من فوكنر تحويلها إلى سيناريو، فأنجزه في أربعة أو خمسة أيام. وصفه هوكس بأنه أفضل سيناريو قرأه. وقد استمرت علاقة فوكنر بالسينما، وبهوليوود، وعلى نحو متقطع، عقدين من الزمن (1932 – 1954)، أنجز خلالهما 50 سيناريو للثلاثة استوديوهات «مترو – غولدوين – ماير»، «وارنر برذرز»، و«توَنتيث سنتشوري فوكس».
ماركيز
بؤس الكاتب وإفلاس الناشر
مرّ الروائي الذي أصبح واحداً من أشهر الكتّاب في الأدب الأميركي عموماً، والأدب الجنوبي خصوصاً، فوكنر بوضعٍ مالي سيئ للغاية، فالمتاجر بدأت ترفض شيكاته التي يوقعها بدون رصيد. وكان انتظاره يطول لوصول شيك الأربعة آلاف دولار من دار النشر «كيب آند سميث»، حصته من عوائد روايته «الملاذ/ Sanctuary». وبلغ بؤس الحال ذروته عندما وضعت المحكمة دار النشر تحت الحراسة القضائية ثم إشهار إفلاسها وتصفيتها. وزاد الطين بِلَّة رفض الناشرين لمخطوطة روايته الجديدة «الضوء في أغسطس»، ربما لطلبه خمسة آلاف دولار مقابل نشرها، وأن تنشر منجمة بدون أي تدخل من الناشر لإجراء تغييرات في النص. وفي هذه الأثناء يصله العرض والعقد من «مترو غولدوين ماير» بقيمة 500 دولار في الأسبوع للعمل في وظيفة «كاتب قصص وسيناريو». وبالرغم من أن فوكنر لم يكن متحمساً، ولا راغباً في الذهاب إلى هوليوود والعمل فيها، لكن لم يكن أمامه خيارات أخرى. فحزم أمتعته وركب القطار بتذكرة أمنتها له «مترو – غولدوين – ماير».
ولم يكن فوكنر أول، ولا آخر روائي «نوبلي» اشتغل «كاتب قصص سينمائية وسيناريو»؛ فثمة روائيون نوبليون آخرون جربوا أياديهم في الكتابة للسينما مع تفاوت في تجاربهم: نجيب محفوظ، وجان بول سارتر، وغابرييل غارسيا ماركيز، وهارولد بنتر، وأورهان باموق، وبيتر هاندكه، وإرنست هيمنغواي، ووول سوينكا، وباتريك موديانو، وكازو إيشيغورو. أما قائمة أسماء الروائيين غير النوبليين فطولها أضعاف طول القائمة السالفة. ولا يمكن هنا سوى المرور بتجربتي اثنين من نظرائه النوبليين: نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز.
محفوظ بين الرواية والسينما
ربما يمكن القول إن نجيب محفوظ، مثل ويليام فوكنر، لم يختر، أو حتى لم يحلم، أن يصبح ذات يوم كاتب سيناريو وقصص للسينما، وأن تربطه بالسينما علاقة من أي نوع. لكنها الحاجة والأوقات الصعبة التي اضطرته إلى ألاّ يفرط بأول فرصة سنحت له للعمل في السينما عندما عرض عليه المخرج صلاح أبو سيف كتابة سيناريو للفيلم «مغامرات عنتر وعبلة، 1948». يروي محفوظ في حوار مع عبد الفتاح الفيشاوي (نشر في مجلة «الكواكب» في 26-7-1966) أنه لم يسع إلى العمل في السينما، ولم يخطر بباله الكتابة لها، وأن حكاية علاقته بها بدأت باتصالٍ من صلاح أبو سيف بعد قراءة الأخير رواية «عبث الأقدار»، واكتشافه أن لديه موهبة كتابة السيناريو، ثم وفي لقاء بينهما في 1946 حضره فؤاد نويرة، طلب أبو سيف منه أن يشترك الثلاثة في تأليف سيناريو الفيلم «مغامرات عنتر وعبلة» حسبما ذكر د. عبد الرحمن بدر في مقاله: «السيناريست نجيب محفوظ… كواليس دخول أديب نوبل للسينما». وأنهى أبو سيف تردد محفوظ بشرح معنى كلمة «سيناريو» وطمأنته بأنه سيتعلم كتابة السيناريو على رأس العمل.
من «عنتر وعبلة» إلى «جعلوني مجرماً»
كانت «مغامرات عنتر وعبلة» الباب الذي دخل محفوظ عبره إلى عالم السينما، وتعرفه على ذلك العالم، وتعرف المقيمون فيه عليه، وكان عاطف سالم ثاني مخرج يعمل معه محفوظ وكان ذلك على الفيلم «جعلوني مجرماً، 1949»، الذي أخذ اسمه، كما يبدو، من الفيلم الأميركي «They Made Me a Criminal. 1939». اشترك محفوظ والسيد بدير وعاطف سالم في كتابة السيناريو، ولعب دور البطولة الفنان فريد شوقي.
اقرأ ايضا: للمرة الثالثة… السعودية ترأس مجلس معهد المواصفات والمقاييس للدول الإسلامية
وتقسّم الكاتبة الدكتورة هاجر بكاكرية سيرة نجيب محفوظ السينمائية في مقالتها «نجيب محفوظ والسينما» إلى أربع مراحل؛ تمتد المرحلة الأولى 15 سنة من فيلم «مغامرات عنتر وعبلة» إلى فيلم «جميلة الجزائرية، 1959»، وتبدأ الثانية بعام 1960 الذي شهد التطور والتغير الأهم في علاقة السينما بمحفوظ، إذ انتقلت من حاجتها إلى خدماته كسيناريست إلى الحاجة إلى ترجمة عدد من رواياته إلى أفلام، بدءاً برواية «بداية ونهاية، 1949»، واستمرت هذه المرحلة إلى 1973. وراوحت العلاقة في الثالثة بين الاعتماد على قصصه للسينما ورواياته. وانفردت القصة القصيرة ملمحاً مميزاً للرابعة.
ماركيز.. التجربة العريضة والعميقة
يحتاج المرء إلى ما هو أكبر وأوسع من جزء من مقالة لتقصي تجربة غابرييل غارسيا ماركيز السينمائية والكتابة عنها. فتجربته تتميز عن تجربتي فوكنر ومحفوظ أمداً وعمقاً واكتظاظاً بالخبرات والأحداث. تلتقي تجارب الثلاثة عند كتابة السيناريو والقصص للسينما، وتفترق تجربة ماركيز عن تجربتي نظيريه بكونها لم تبدأ ولم تتطور وتتعمق عن طريق الصدفة. لم يصبح ماركيز كاتب سيناريو صدفة، ولم تضطره الظروف، كما يبدو، إلى الكتابة السينمائية لتخفيف حدة أزمة مالية كانت تعكر صفو حياته. لقد سعى بنفسه إلى عالم السينما، جدّ واجتهد في طلبه فتحقق ما يصبو إليه. بدأ ناقداً صحافياً سينمائياً، ثم أصبح كاتب سيناريو حوَّل قصص وروايات آخرين إلى قصص للسينما، ومدرباً على كتابة السيناريو، وانتهى به المطاف مُنشِئاً لمؤسسة لسينما أميركا اللاتينية الجديدة، ثم مدرسة سينما وتلفزيون للعالم الثالث، حسب ماريا كورتيز، «ماركيز والسينما، 2009».
علاقة ماركيز بالسينما علاقة شغف نشأ في الطفولة المبكرة، عندما كان جده العقيد نيكولاس ماركيز يصحبه إلى السينما، ويطلب منه بعد عودتهما سرد حكايات الأفلام. كان ذلك بمثابة التدريب المبكر على السرد بحبكات يتوقف ترتيبها للأحداث على ما يعلق بذاكرته منها.
وكان لعمله في الصحافة ابتداءً من 1948 دور في تعزيز علاقته وتعميق شغفه بالسينما، بالإضافة إلى تطوير فهمه لكيفية السرد السينمائي، ليس فقط من خلال الحبكة والتمثيل والحوار، لكن أيضاً في كيفية توظيف الكاميرا في سرد أحداث الفيلم. كما يشير الكاتب شيل نافوس (مارس 2020). إن سيرة ماركيز السينمائية بثرائها وتعدد اشتغالاته من أكثر السير إمتاعاً وإلهاماً، كسيرته الأدبية.
فولكنر
النهاية البداية
يُدركُ من قصص اشتغال فوكنر ومحفوظ وماركيز في السينما أن حاجة الأخيرة إلى الروائي ككاتب قصص سينمائية وسيناريست أشدّ من حاجتها إلى رواياته. فعلى سبيل المثال، مضى على بدء محفوظ العمل سيناريست 14 عاماً قبل ترجمة روايته «بداية ونهاية» إلى فيلم. فكتابة محفوظ، أو بالأحرى، مشاركته في كتابة سيناريو «مغامرات عنتر وعبلة» كانت أهم من وجهة نظر صلاح أبو سيف من الاستفادة من واحدة من رواياته. على ضوء هذا، يبدو أن السينما المحلية في حاجة إلى الروائي كاتب سيناريو أشد من حاجتها إلى رواياته. ولعل ما أُنتج حتى الآن من أفلام محلية طويلة يدعم هذا الرأي. فالأفلام السعودية: «مندوب الليل» و«هوبال» و«ناقة» و«سكة طويلة»، مثلاً، ليست ترجمات سينمائية لروايات محلية، ولم يكتب قصصها وسيناريوهاتها روائيون.
الرواية ليست النص السردي الوحيد الذي قد يسهم به الروائي في صناعة أفلام محلية، وليست المادة الخام الوحيدة، أيضاً، لصنع أفلام تروي حكايات أناس متخيلين (يشبهوننا) حسب القول الشائع؛ وتنقل للعالم صوراً عن مجتمعنا وثقافتنا. فبإمكان الروائي بالتعاون والحوار مع السينمائي، حين وجود الحاجة والرغبة لدى الأخير، إنجاز قصص للسينما وسيناريوهات تحقق ذلك. هل يُعَبِّرُ هذا عن رفض لتوظيف السينمائي للرواية المحلية؟ بالتأكيد لا. ولكني أرى أن وصول الرواية المحلية إلى الشاشة وبأعداد كبيرة نسبياً تُرضي البعض، وباستمرار، سيتأخر لبعض الوقت، نظراً لعدم توفر أي معطيات ومؤشرات على ضوئها يهتدي السينمائيون إلى رواياتٍ يتوقعون أن تكون مادةً خاماً لأفلام تحقق نجاحاً جماهيرياً عبر شباك التذاكر.
* كاتب وناقد سعودي