تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، خرجت منها مجموعات متنوعة من اللقى، منها عقود مصنوعة من القواقع والأصداف والأحجار الكريمة، يعود أقدمها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، خلال حقبة شكّلت فيها هذه البقعة الجزرية العربية عاصمة لإقليم عُرف باسم دلمون في مصادر بلاد ما بين النهرين الكتابية، وتتبع في تكوينها طرزاً فنية شاعت في نواح عدّة من العالم القديم، غير أنّها تتميّز بطابع خاص يشهد لنشوء صناعة حرفية محليّة نمت في زمن دلمون، وتطوّرت في القرون التالية.
تقع تلال مدافن دلمون في الجزء الغربي من الجزيرة، وتضم 21 حقلاً أثرياً شُيّدت بين 2200 و1750 قبل الميلاد. تكوّن هذه الحقول موقعاً جامعاً أدرجته منظمة اليونيسكو على قائمة التراث العالمي في صيف 2019، وأكبر هذه الحقول يُعرف باسم حقل مدافن عالي الشرقي، يغطّي مساحة كبيرة إلى الجنوب من قرية عالي القديمة. خرجت من هذا الحقل عقود جنائزية، منها عقد كبير يبلغ طوله 94 سنتيمتراً، صُنع من قواقع حلزونية. يعتمد هذا العقد في تكوينه على بناء تعادلي يتمثّل في مجموعة من القواقع الكبيرة، تفصل بين كل قطعة منها سلسلة تتكوّن من ثلاث قواقع أصغر حجماً، وتتميّز كل هذه القواقع ببقع من اللون البني المائل إلى الاحمرار، تشكّل زينة طبيعية لها.
هكذا يتشكّل هذا العقد البسيط من حلقات صدفية، تتمثّل في قواقع ذات أطراف مثقوبة يربط بينها خيط، وفقاً لطراز شاع في بلاد ما بين النهرين منذ بداية الألف الرابع قبل الميلاد، وأشهر شواهده عقد عُثر عليه في مدينة أوروك الأثرية التي تتبع اليوم قضاء الوركاء، في محافظة المثنى. يحضر هذا الطراز من العقود المصنوعة من القواقع الحلزونية كذلك في إقليم عُمان، حيث يتميّز ببقع من اللون الأسود الحالك. في المقابل، يتميّز عقد دلمون كما عقد أوروك ببقع من اللون البني، ويبدو أن هذا الصنف يحضر بكثرة على سواحل المحيط الهندي، ممّا يوحي بوجود حركة لاستيراد هذا النوع من القواقع من شبه القارة الهندية.
نقع على عقد آخر من الأصداف البحرية يمثّل طرازاً مغايراً، ومصدره حقل من تلال مدافن دلمون، يقع على مقربة من حقل مدافن عالي الشرقي، ويُعرف باسم حقل مدينة حمد، نسبة إلى هذه المدينة التي يطلّ عليها. يبلغ طول هذا العقد 38 سنتيمتراً، ويتكون من سلسلة من القواقع النابية المتساوية في الحجم، تتدلّى من وسطها مجموعة من الأصداف الأسطوانية تشبه في تكوينها صدف المحار. تأخذ كل حلقة من حلقات القواقع النابية شكل أنبوب صغير مفتوح من الطرفين، فيما تجمع الحلقات الأسطوانية بين أصداف متنوعة، بعضها أقراص مسطحة، والبعض الآخر أقراص مقعرة إلى حد ما.
قد يهمك أيضًا: شعراء كركوك طوّروا تجربة حسين مردان في قصيدة النثر
يُمثّل هذان العقدان نتاجاً اعتمد في صناعته بشكل أساسي على الأصداف البحرية المتنوّعة. في المقابل، تمثّل مجموعة أخرى من عقود دلمون نتاجاً اعتمد على الحجارة الكريمة المستوردة من الخارج، وتجمع الدراسات العلمية على أن هذه الحجارة المستوردة استخدمت في صناعة محليّة وفقاً لطراز اتّخذ طابعاً خاصاً يتجلّى في الصياغة كما في الصقل والنقش. تبرز هذه الصناعة وتسطع في قطع متنوّعة الأشكال، مصدرها مقبرة تُعرف بـ«تلال مدافن سار»، تشكّل جزءاً من منطقة تحمل هذا الاسم في المحافظة الشمالية. يبعد هذا الموقع الأثري نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، ويضم مستوطنة كشفت عنها سلسلة من حملات التنقيب في العقود الأخيرة من القرن العشرين. خرجت هذه الحملات المتعاقبة بمجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من العقود اعتمدت في تكوينها بشكل أساسي على فصوص من العقيق واللازورد والنحاس.
تحضر في هذا الميدان ثلاث قطع تشهد لهذه الصناعة المتقنة التي راجت على مدى قرنين من الزمن. القطعة الأولى عقد بيضاوي الشكل، عُثر عليه في نهاية السبعينات، يبلغ طوله 29.5 سنتيمتر، ويحوي أربعة فصوص دائرية مسطّحة من اللازورد، مصدرها على الأرجح مقاطعة بدخشان، في أقصى الشمال الشرقي من أفغانستان. القطعة الثانية مشابهة في الشكل، عُثر عليها في نهاية الثمانينات، وتحوي فصوصاً من العقيق والمرو مصدرها بلاد السند، إضافة إلى قطع من النحاس مصدرها إقليم عُمان.
إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعة على شكل سوار دائري، يبلغ طولها 39 سنتيمتراً، مكوّنة من فصوص من العقيق والنحاس، وتتميز بأربعة فصوص كبيرة تستقرّ بشكل متجانس في سلسلة من القطع الصغيرة المتعدّدة الأشكال. خرجت هذه القطع الثلاث من مقبرة سار، وتمثّل نتاجاً محلياً واسعاً تعدّدت شواهده، منها على سبيل المثل عقد من الحجم الصغير خرج من مدافن حقل مدينة حمد، يبلغ طوله 14.5 سنتيمتر، يتكوّن من فصوص من المرو المتعدّدة الأحجام، يغلب عليها اللون الزهري بتدرجاته المختلفة.
تشير الدراسة التحليلية الخاصة بهذه العقود الدلمونية إلى نسق خاص اعتُمد في صياغة هذه الفصوص ونقشها خلال تلك الحقبة من تاريخ البحرين، واللافت أن هذا النسق تطوّر على مدى قرون، وشكّل أساساً لطراز محلي برز في الحقبة التي عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية الكتابية.