- اعلان -
الرئيسية الثقافة والتاريخ لماذا لم يصل صنع الله إبراهيم إليّ مبكراً في العراق؟

لماذا لم يصل صنع الله إبراهيم إليّ مبكراً في العراق؟

0

لا أتذكر أني سمعتُ باسم صنع الله إبراهيم في ثمانينات العراق الكئيبة؛ كانت الأخبار، آنذاك، قليلة، ومثلها الكتب. الحياة ذاتها كانت معلَّقة، برمتها، بالفراغ الدامي، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، كانت الحرب قصة البلاد الوحيدة ببطلها الأوحد الوحيد؛ فهو الحكاية كلها بفصولها المختلفة والمتعدِّدة، هو صانع الحكايات وراويها، وكان على البلاد أن تنتظر حتى تضع الحرب أوزارها. لكني للإنصاف، أيضاً، كنت مغرماً بالشعر والشعراء، وهذا، ربما، سبب إضافي لجهلي باسم الكاتب المصري الشهير، وكأن هناك قدراً حال دون تلك المعرفة، سوى أن مصائر الكتب ومؤلفيها لم تكن، يوماً، رهناً بالمزاج الشخصي؛ فأنا أتذكر أن صديقاً اشترى من «بسطية» كتب رواية عاش كاتبها ردحاً من الزمن في عراقنا العجيب، وكان عنوان الرواية «قصة حب مجوسية»؛ فلماذا لم أتعثَّر، أنا شخصياً، بإحدى روايات صنع الله كما تعثَّر صاحبنا؟!

أفكر الآن أن لا معنى لربط مصائر روايات كاتب ستيني أساسي، مثل صنع الله، بقراءاتي ومسارات حياتي المضطربة؛ فقصته التي صنعت شهرته: «تلك الرائحة»، كانت قد صدرت عام 1966 في القاهرة، وصودرت في الحال، ثم ظهرت منها نسخة غير مكتملة نشرتها مجلة «شعر» اللبنانية الشهيرة عام 1969. ولم أكن، وقتها، قد التقطت نفسي الأول. لكن القصة كلها هنا، في هذه النقطة المحدَّدة من الحياة؛ فأنا أفترض أن جانباً أساسياً من مساهمة صنع الله تكمن في هذه النقطة، فقصصه ورواياته كانت صانعة لمخيلتي الفقيرة آنذاك. هل كانت مخيلتي وحدها الفقيرة؛ أم أن البلاد، بلادي كلها، كانت تفتقر لمخيلة خصبة بعد حرب مدمِّرة وقصص مكرَّرة، ملايين المرات، لحاكم البلاد، وهو يضحك، ثم وهو يحتفل بميلاده «السعيد»، ثم وهو يذهب لتعاسته الخالدة؟

ثمة سيرة مقترحة… ثمة مخيلة أخرى

كانت قراءتي لقصة «تلك الرائحة» موعداً متأخراً مع مخيلة جديدة، كلياً، لم أعهدها من قبل. أفكر الآن أن تلك المخيلة كانت متصلة بسيرة ضمنية لكاتب تلك القصة المختلفة. تحكي القصة المطوَّلة، نسبياً، عن «سجين» سياسي يخرج، للتو، من المعتقل، ويعود إلى عالمه الأول، ولم يكن سوى غرفة قذرة هي المعادل للبلاد كلها. تبدو قصة السجين السياسي العائد قصة مكررة، ربما، في الرواية والقصة العربية؛ ففي الرواية العراقية، مثلاً، سيظهر عندنا ما سُمي، لاحقاً، بـ«ثلاثية شباط: (الوشم) – 1972 و(القلعة الخامسة) – 1972 و(الرجع البعيد) – 1980»، والروايات الثلاث، لا سيَّما «الوشم»، تتخذ من سردية السجين الخارج من المعتقل موضوعاً كلياً لها. ففي «الوشم» نغادر المعتقل مع «كريم الناصري»، ونعود معه إلى مدينته وعالمه العتيق. ثمة عالم كامل ينهار أمامنا، لا عِوَض أو بديل عنه سوى الوهم والخيبة. هذا بالضبط ما تقترحه «تلك الرائحة» من عوالم مختلفة وصادمة على القصة العربية، سوى أن بطل «تلك الرائحة» لا يملك بيتاً أو أهلاً يعود إليهم. فهي القصة، ولنقل «النوفيلا» المؤسسة لسردية السجين الخارج من المعتقل؛ حيث الأبواب الضخمة المغلقة بإحكام، الأبواب التي تكتم الأصوات وتقمع الأحلام. وهي، وحدها، مما يخرج منها الناس، في عالمنا العربي، إلى ما تبقَّى منهم، إلى سجون الذات المحصَّنة، فلا أبواب كبرى سواها تطاول السماوات؛ كما لو أن يجتاز عتبتها الأخيرة يُلقى به من أعلاها إلى أسفل سافلين، فلا يبقى منه غير الحطام!

وهذه سردية كررت عوالمها الرواية العربية مراراً بطبعاتها وأسمائها المختلفة. قصة المعتقل وسجينه والرائحة العجيبة، رائحة الذات المحطمة هي إحدى صنائع مخيلة صنع الله العجيب والمتفرد. هل كان إبراهيم يكتب عن تجربة بصفته معتقلاً سياسياً في سجون عبد الناصر؟ هذا من نافلة القول، وفي استلهام تجربة الذات فرادة وتفوُّق يُحسب لصنع الله؛ فلا نكون إزاء وهم الذات المتفجعة بمحنتها، ولا يستغرقنا فخ السرد المتوهَّم بمنجزه القصصي. كان صنع الله يستلهم تجربته، وهذه حقيقة كبرى قامت عليها مجمل رواياته؛ فهو يستعمل تجاربه الشخصية في الكتابة السردية، لكنه يعدها محض وسيلة من وسائل أخرى متعدِّدة، وربما مختلفة، في تشييد العالم السردي لقصته أو روايته.

تصفح أيضًا: تساؤلات حول ازدياد الاعتماد على «روبوتات الدردشة» مصدراً للأخبار

1970: نسيان أقل وذاكرة منضبطة

لكن صنع الله المختلف لا يزيف تجربته ولا يخدع قارئه؛ فلا يكتب بقصد استعادة عالمه المنتهك أو المنهوب انتقاماً من سردية المعتقل، أو لترميم صورة الذات قبله، كما يرغب ويفعل كتَّاب عرب كثيرون؛ وللأسف؛ بروايات تتعكز على سردية «الحكاية المصنَّعة» فيسرفون في استعمال «النسيان» حتى كأنه قد صار ذاكرة كبرى في رواياتهم. أفكر هنا بروايته المتفردة أيضاً «(1970» («الثقافة الجديدة» – 2019)؛ فهي نموذج سردي خاص لما يمكن تسميته بجدل الذاكرة والنسيان. وعندي أن الرواية تنطوي وتقوم على مغالبة «النسيان» والاقتصاد الحذر في استعماله؛ فالأصل هنا هو الظفر بالقصة الأصلية بلا زيادات ولا نسيان متعمَّد.

تؤلف «1970» جزءاً ثالثاً من ثلاثية تُعرف بالاسم ذاته «ثلاثية صنع الله إبراهيم»، كما سمَّاها الناقد المغربي صدوق نور الدين في كتابه: «اكتمال الدائرة» («الثقافة الجديدة» – 2021)، وسبقها جزآن شهيران: «67» و«برلين 69». هي ثلاثية روائية بمواضيع تاريخية وأساليب سردية ذات صلة مؤكدة. ولست أعرف إن كان مصطلح «الثلاثية» قد أطلقه الكاتب نفسه، أم أنه من بنات أفكار نقاد رواياته ودارسيه، كما حدث من قبل عندما جمع الناقد المصري محمود أمين العالم 3 روايات للكاتب، في دراسة عُرفت بعنوان شهير: «ثلاثية الرفض والهزيمة» (1985)، وكان موضوعها الروايات: «تلك الرائحة»، و«نجمة أغسطس»، و«اللجنة». رواية «1970»، وقد انفردت عن الجزأين السابقين، بالصيغة التاريخية الكاملة «1970»؛ فرقاً عن «67» و«برلين 69»، وكأنها تعلن، ابتداءً، أنها بصدد كتابة سيرة جديدة، مختلفة ومتأخِّرة أيضاً، موضوعها ومادتها «الزعيم عبد الناصر».

حياة الزعيم في سنتها الأخيرة هي منطق الرواية وسبيلها لقراءة العالم السردي المنتهي بالوفاة المفاجئة لعبد الناصر. ولا تبخل علينا الرواية بمواد التوثيق السيري والتاريخي، بدءاً من التاريخ، وليس ختاماً بصورة «عبد الناصر» الواضحة على الغلاف الأمامي للرواية. والرواية تُفيد، من ثمّ، بوصفها نصاً مؤسساً في الرواية السيرية التاريخية، من موارد السرد التاريخي المختلفة والسرد الذاتي «منطق الراوي المتكلِّم» المتماهي مع سلطة مفترضة للراوي العليم المتخفي بألف قناع وقناع. ومثلما كانت قصته الأولى «تلك الرائحة» فاتحة روايات المعتقل في الأدب العربي بصيغتها الأخيرة المتمثِّلة بعودة السجين إلى عالمه الأول وحياته التالفة؛ فإن رواية «1970» هي صياغة كلية متأخِّرة (2019)، ولا شكَّ، لمنطق الذاكرة السيرية في سياق سردية «الزعيم». وقد سُبقت بثلاثية جميل عطية إبراهيم «1952»، و«أوراق 1954»، و«1981»، وقد صدر جزؤها الأول عام 1990. ولم تكن مختصَّة بسردية «الزعيم»، إنما بحدث مركزي هو «1952».

أفكر في سياق قراءتي لرواية «1970» بإشكالية الذاكرة الظافرة؛ إن صح الكلام والتسمية. وهي، هنا، الذاكرة المنضبطة، أو هذا ما تجاهر به الرواية، وهي تحايث سرديتين تتغالبان وتتضادان: سردية الراوي المتكلِّم: «لماذا لا أقول: المتذكِّر؟!»، وسردية الزعيم الرهيب. ويدخل ضمن هذا الانضباط التمكن الواضح، بل و«التغلُّب» على شهوة «النسيان». وهذه «شهوة» قاهرة أظهرت قدرة فائقة على اقتراح تواريخ وسير مختلفة عن أصلها الأول، مما نجده في أغلب روايات ما بعد الحداثة، لا سيَّما بنسخها العربية «المقلِّدة». رواية «1970» هي رواية الذاكرة الظافرة بنسيان أقل أثراً وفاعلية، وهي كذلك رواية الذاكرة المنصفة.

اخترت «نوفيلا: تلك الرائحة» ورواية أساسية، هي «1970»، في سياق مدونة كبرى تألفت من روايات كثيرة ومختلفة، كان لها أن تسهم في صناعة اسم متفرد هو «صنع الله إبراهيم». والنموذجان، أو النصان الأساسيان، ينجحان بتقديم العالم الخاص لكاتب من شاكلة «صنع الله»؛ فهما يقدمان طرائق متفردة من الريادة المُلهمة في كتابة الرواية والقصة المنتصرة لعوالم الذات المهمَّشة، والمغلوبة على أمرها، المرتبطة بالتواريخ المقصيَّة والملغاة من السجلات الرسمية، من دون أن يسمح لها بالسقوط في فخ الذات المنكسرة. ثمّ إن النصين ينجحان بتقديم صنع الله بوصفه سردية مقاومة لعسف السلطة، ولرغبة الذات الجامحة بكتابة مرثية تتوَّهم كتابة تاريخ ينتصر لها ولخيباتها السابقة. هذه السردية الأساسية تنجح كثيراً بتقديم نفسها بوصفها الرواية الثانية بعد رواية المؤسِّس نجيب محفوظ. هل ثمة مبالغة فيما نقول؟ أبداً؛ وقد أزعم أن الدراسات المقبلة في حقل الرواية العربية ستقف موسعاً عند نصوص صنع الله إبراهيم وتتأملها جيداً، ليس من نواحي أهميتها المؤكدة في تاريخ الرواية العربية فحسب، بنسختها المصرية المميزة، إنما سنجد باحثين ونقاداً يعيدون ربط رواية صنع الله إبراهيم بأصول جديدة للرواية العربية بعد نجيب محفوظ، وكأننا نتحدث عن ريادة أخرى، وتأسيس جديد للرواية العربية تحققها رواية الكاتب المتفرد حقاً صنع الله إبراهيم.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version