شكَّل الشاعر محمود البريكان ظاهرة كبيرة في الشعرية العراقية والعربية، اتسمت بجودة شعره وباحتجابه وزهده في الحضور والنشر، فنادراً ما تجد شاعراً زاهداً في حضور المهرجانات أو الدعوات والسفر وطباعة الدواوين واللقاءات التلفزيونية، والكثير الكثير من عوامل النجومية والشهرة التي يطمح أغلب الشعراء لها، إلا أن البريكان زهد بكل ذلك. ولكنه في الوقت نفسه، بقي ساهراً وحارساً على القصيدة العربية الحديثة، يتأملها ويراجع فيها، يضيف لها مزاجاً مختلفاً عن معظم الرواد، فينفر بها بعيداً عن غنائية جيله، ورومانسيتهم، يغذِّي قصيدته بمرجعيات ثقافية كبرى، ربما تعدى شعراء مجايلين له بخطوات عديدة، حيث الثقافة العربية والأجنبية تدخل بقوة في نسيج القصيدة البريكانية، تلك التي تحولت بفضل صاحبها المحتجب إلى ما يشبه الأسطورة، حيث تنسج الحكايات والقصص الغريبة عن شاعر عراقي اسمه محمود البريكان يراه شعراء البصرة بعدد محدود جداً. لم يكن متاحاً للجميع، لذلك تحول إلى أسطورة الغائب الشعري، الذي نتسقط حكاياته وأسراره، حتى قيل لنا إن قصائده أيام الحرب العراقية – الإيرانية كانت مودَعة في مصرف الرافدين فرع البصرة، وهي حكاية غريبة لم نتثبت من صحتها، ولكن البريكان تحول مثل كرة الثلج إلى حكايات وأساطير، حتى موته كان يشبه الأسطورة حين تنبأ به في أحد نصوصه:
على الباب نقر خفيف
على الباب نقر بصوت خفيف ولكن شديد الوضوح
يعاود ليلاً. أراقبه. أتوقعه ليلة بعد ليلة
أصيخ إليه بإيقاعه المتماثل
يعلو قليلاً قليلاً
ويخفت
أفتح بابي
وليس هناك أحد
مَن الطارق المتخفِّي؟ ترى؟
شبح عائد من ظلام المقابر؟
تصفح أيضًا: أحمد المالكي لـ «الشرق الأوسط» : الكتابة لأكثر من مطرب متعة
ضحية ماضٍ مضى وحياة خَلَتْ
أتت تطلب الثأر؟
روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها
أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة
ومهراً لأجل الرحيل
وهذا الغياب المتعمَّد من البريكان نظر إليه نقّاد وباحثون منهم الدكتور حيدر سعيد، حيث سمّاه «شهوة الغياب»، فمثلما أن للحضور شهوة، كذلك فإن للغياب شهوةً تمنح الغائب هالة عظيمة، وهذا ما كان عليه محمود البريكان الذي ربما كان يشعر بالمرارة حين لم يجد اسمه في قائمة الشعراء الرواد، وهو الذي ينظر إلى نفسه وإلى تجربته على أنه متقدم على تجربة الرواد فنياً.
وحين ننظر إلى نتاج البريكان الشعري، ففي الواقع لا يوجد عمل شعري يجمع كل شعره، فقد كان محتجباً عن النشر والظهور، ما عدا بعض الملفات والقصائد التي كانت تُنشر له، وبالأخص ملف مجلة «الأقلام» 1993 وملف 1998، فضلاً عن عمل نشره عبد الرحمن طهمازي دراسة ومختارات ضمت 12 قصيدة فقط «سيادة الفراغ: محمود البريكان» 1989، وآخر نشره باسم المرعبي «متاهة الفراشة» 2003 ضم 70 قصيدة، لذلك بقي شعر البريكان حلماً يراود جميع مريدي الشعر الحديث فضلاً عن أن حضور شعر ه الآن هو استحضار له من جديد، قد ينافس على الريادة، من حيث الأسلوب والموضوعات، لا من حيث التاريخ والبداية.
قصة هذه الأعمال الشعرية بدأت حين كلَّفني الناقد والمترجم الدكتور حسن ناظم وزير الثقافة والسياحة والآثار السابق، مديراً عاماً لدار الشؤون الثقافية، حيث بدأنا بسلسلة في غاية الأهمية بدأناها بالأعمال الكاملة للجواهري، ومن ثم استمرّت القائمة لتشمل عدداً كبيراً من الرواد العراقيين في ميادين الشعر والقصة والفكر والمعرفة، وهنا التمع البريكان في ذاكرتي مرة ثانية، وبدأت اتصل بأصدقائي من شعراء البصرة، وأسأل عن شعر البريكان، أين ذهب؟ وهل هناك جهة تحتفظ بشعره؟ وأسئلة عديدة بدأت أطلقها في وجوه أصدقائي شعراء البصرة، وبعض القريبين من محمود البريكان، وقتها تكفل الصديق الشاعر علي نوير بمتابعة الأمر، وقد دلَّني على أخي البريكان، وهو عبدالله البريكان الذي يقيم في المملكة العربية السعودية، وأعطاني صفحته في «فيسبوك»، فدخلت على الخاص، وسلمت عليه، وعرَّفته بنفسي، فردَّ التحية باقتضاب، ثم قلت له إنني أريد أن أطبع أعمال البريكان الشعرية، فلم يردّ عليَّ، تركته أياماً، وعُدتُ إليه، فلم يرد عليَّ، ثم عُدتُ إليه ولكن من دون جواب، حتى سمعت بعد اقل من شهر بوفاته، ساعتها علمت صعوبة وضعه الصحي أيام كنت أسأله عن شعر أخيه البريكان. كانت لحظة مخيبة، فقد ضاع الخيط الذي يوصلنا إلى شعر البريكان، ومرت سنتان تقريباً أو أقل بقليل، حتى عاد الصديق علي نوير ليخبرني بأن ابن عم البريكان قاسم البريكان المقيم أيضاً في الرياض، قد تحصل على كل شعر البريكان، حيث سلَّمته زوجة عبد الله الأمانة التي كانت مع زوجها. اطمأن قلبي أنَّ شعر البريكان بخير وعافية ما دام موجوداً بأيادٍ أمينة، وبدأنا بجولة مفاوضات مع قاسم الشمري، عن طريق علي نوير للقائه، ولكن مرت أكثر من سنة دون أن نوفَّق للقاء، حتى حان موعد برنامج «المعلّقة» الذي كنت أصوّره في مدينة الرياض، وبدأت أتواصل من السيد قاسم الشمري الذي زارني يوم 5 – 2 – 2024 في مقر إقامتي في الفندق في الرياض، وكان شخصاً أميناً على تراث ابن عمه، فشكرته باسم المثقفين العراقيين، حيث حافظ على هذا الإرث العظيم، وسلَّمني لحظتها حقيبة تزن عشرة كيلوغرامات، وإذا بها أشعار محمود البريكان. شعرت بسعادة غامرة تلفّني في الرياض، بقيت فيها ثملاً حيث عدت إلى البصرة بعد يومين، مشاركاً في المربد الشعري ومعي أشعار البريكان التي كانت أشبه بالتميمة التي يبحث الناس عنها.
عدت بعد ذلك إلى بغداد، ومباشرةً قمت بتشكيل لجنة من أساتذة متخصصين وشعراء قريبين من البريكان نفسه، حيث كانت اللجنة مكوَّنة من ماجد السامرائي، وعلي نوير، وطالب عبد العزيز، والدكتورة سهير أبو جلود، وعارف الساعدي. اللجنة اجتمعت أكثر من أربعة اجتماعات، وعملت بحرص ومعاينة شديدة لشعر البريكان، حيث كانت الأشعار التي جلبتها معي كلها بخط يد البريكان، وهناك خطوط وأسطر غير واضحة تماماً، فبدأنا بجولة تنضيد الأشعار، ومن ثم مطابقتها ومراجعتها وتصحيحها، كأن العملية عملية تحقيق نص تراثي لصعوبته، ولكن أخيراً استوى العمل على عوده، وخرج بحلَّة تليق بشعر البريكان وبمرحلة غيابه وانتظار الكل لشعره.
الغريب أني أهديت نسخة من ديوان البريكان بمجلدين لأحد الشعراء الأصدقاء، وكان يتطلع بحب لقراءة شعره، لكن بعد يومين التقيت صديقاً لي، وإذا به غير متفاعل مع شعر البريكان، قائلاً إن لغته غير شعرية وعوالمه مختلفة عن جيل الرواد، وإن الأفكار التي يطرحها في شعره ممكن أن تُطرح في مقالة فكرية أو فلسفية، وهذا الشاعر الصديق ليس جاهلاً أو قارئاً سطحياً، فكيف تُقنعه بأن للبريكان لغة خاصة مختلفة عن كل الشعراء العراقيين وأن الميوعة والرومانسية واللغة الندِّية أبعد ما تكون عن تجربته الشعرية، كما يقول حسن ناظم في كتابه «الشعرية المفقودة» 2020: «من هنا تكون تأملات البريكان في الوجود منطلقاً لتأسيس حرية، حرية خاصة به، تتملص من اشتراطات الآيديولوجيا؛ سائدةً وغير سائدة، ومن شَرَك اللحظة الراهنة بكل ثقلها ومعطياتها المهمة للشاعر مع ذلك، وأخيراً من أعباء التراث الشعري؛ قديمه وحديثه، هذا التملص والروغان فرض على أشعار البريكان لغةً خاصة، لغة كان عليه أن يكتشفها ويطوّعها لأغراضه، وأن يجرّب وفاءها بمراميه في قصائد متنوعة ومتعددة، لغة (ليست شعرية) تتوخى كتابة قصيدة حقيقية… إن هذا التفكير في اكتشاف لغة تلائم التأمل الأنطولوجي شعراً هو بمثابة مسار آخر في تجديد الشعر العربي يوازي المسار الذي اختطه السياب ونازك وبلند الحيدري، مسار لم يُكتب له الانتشار ولا كان له تأثير بين الشعراء العرب…». وقد لا يتفق مع هذه الآراء عدد غير قليل من المتذوقين والنقاد، من الذين يبحثون عن اللغة المائية أو الصورة الشعرية الصادمة التي يحفظها الناس ويتناقلونها، ولكن هنا في تجربة البريكان علينا أن نتوقف متأملين هذه التجربة الوجودية التي طوَّع لها الشعر، الشعر فقط؛ لتتجلى أسئلة وقلقاً ومراجعة للتاريخ ونصوصه في «الطوفان» و«البدوي الذي لم يرَ وجهه أحد» وبعشرات النصوص الأخرى التي تنبئ عن مرجعية تراثية قلقة تختزن وتستبطن السؤال والحيرة والقلق وليس الإجابة. لذلك فالذين يبحثون عن إجابات مطمئنة لن يجدوا ضالَّتهم في شعر البريكان، لأن شعره يذهب بك إلى الشوارع التي لا نهاية لها وإلى بيوت لا عناوين لها. من يبحث عن القلق والارتباك سيجده هنا، ومن يبحث عن الراحة والطمأنينة سيجده عند غيره من الشعراء. وهذه كلها وجهات نظر لا نفضّل من خلالها البريكان على شعراء جيله، بقدر ما نصف بعضاً من تجربته الغامضة وغير المقروءة بشكل جيد، لهذا فطباعة أعماله الشعرية، كما قلنا، هي لحظة استحضار جديدة للبريكان عراقياً وعربياً.
هناك عشرات المباحث والموضوعات التي يحتملها شعر البريكان والتي لم تأخذ طريقها للدرس والبحث العلمي، ففي النية عقد مؤتمر يتم بالشراكة بين اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وبين جامعة البصرة، يتضمن بحوثاً وشهادات عن البريكان وتجربته الشعرية، فضلاً عن حفل إشهار لإطلاق الأعمال الشعرية في موطن ولادته البصرة، لنحتفل به من جديد بين أهله ومحبيه وعشاق شعره، وهي لحظة لاستعادة تجربة مهمة من تجارب الشعر العربي الحديث.