بعد ثلاثة أيام فقط من الزوبعة التي أثارها تقرير عن محاولة بناء «إمارة» في مدينة الخليل الفلسطينية، وفصلها عن السلطة الوطنية، أحرق شبان فلسطينيون في بلدة العيساوية بالقدس الشرقية المحتلة، مساء الثلاثاء، سيارة يملكها أبرز وجه ممن تبنوا الدعوة، ويدعى وديع الجعبري، أمام بيته في المدينة.
ووثقت مقاطع مصورة نشرها ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحظة إضرام النيران في السيارة، وسط هتافات غاضبة ضد الجعبري، مؤكدين أنه واحد من الفلسطينيين المقدسيين القلائل الذين حصلوا على الجنسية الإسرائيلية. وشددوا على أنه «عملياً، لا يستطيع التحدث باسم الخليل، ولا أن يسلخها عن الجمع الفلسطيني».
فلسطيني يُشعل النار بإطار سيارة في مدينة الخليل بالضفة الغربية يوليو 2024 (أ.ف.ب)
ونشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، تقريراً، قبل أيام، وروّجته بكثافة وسائل إعلام إسرائيلية، نقل عمن زعم أنهم «21 شخصاً (بينهم الجعبري) من شيوخ القبائل الفلسطينية في الخليل»، قاموا بتوجيه رسالة باللغة العبرية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطالب بإطلاق مفاوضات معهم كي ينضموا إلى «الاتفاقيات الإبراهيمية»، وبالتبعية إسقاط «حلّ الدولتين»، الذي يعول عليه الفلسطينيون لبناء دولتهم.
وتشير المعلومات إلى أن الجعبري يحمل الجنسية الإسرائيلية، وليس مقيماً في الخليل، وهو ما يتوافق مع تبرؤ عائلته من دعوته بعد ساعات من إعلانها، وجددوا تمسكهم بالعمل مع كيان السلطة الوطنية.
منذ نحو 60 عاماً كان أول من طرح فكرة تقسيم الضفة الغربية إلى إمارات تدار مدنياً بقوى محلية تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية هو الجنرال بنيامين بن إليعازر، عندما كان أول حاكم عسكري للضفة الغربية في نهاية الستينات تحت قيادة موشيه ديان، وزير الدفاع.
وعمل إليعازر الذي أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع شهوراً طويلة برفقة شلومو غازيت، أول منسق لأعمال الحكومة في المناطق المحتلة، وأصبح لاحقاً رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية، وتطور المشروع لاحقاً ليعرف باسم «روابط القرى»، التي بدأت أيضاً في الخليل، ولكن الفلسطينيين رفضوها، وأفشلوها.
وبعد تجارب طويلة وعنيفة لتطبيق هذا الحل، توصل ديان وبن إليعازر وغازيت إلى الاستنتاج بأنه يبدو «اقتراحاً مستحيل التطبيق». وراحوا يؤيدون حلاً يقوم على أساس مبدأ «دولتين للشعبين».
موشي ديان على جبهة الجولان السورية يوم 18 أكتوبر 1973 (أ.ف.ب)
وعادت الفكرة إلى التداول في عام 2008، وبادر إليها قادة مجلس الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، وراحوا يعقدون لقاءات استعراضية مع فلسطينيين أسموهم في ذلك الوقت أيضاً «مشايخ»، واختاروا بالضبط أولئك الذين يحرضون على «منظمة التحرير الفلسطينية» والسلطة الوطنية بدعوى أنها «فاسدة»، ويعارضون فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة.
كانت الخطة موجهة هذه المرة أيضاً ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، إيهود أولمرت، الذي عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس تصوراً لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس على أساس حدود 1967.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، في المعارضة، آنذاك، وساند هذا النشاط، ونفذ المحاولات يوسي دغان، الذي يرأس مجلس المستوطنات حالياً، وينتمي إلى الليكود، ويمضي جل وقته في الولايات المتحدة ليجند اللوبي الصهيوني للضغط على الرئيس دونالد ترمب، حتى يؤيد قراراً إسرائيلياً بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل.
وخلال موجة 2008 لجأ الإسرائيليون إلى استخدام اسم «كانتونات»، حتى يتهربوا من اسم «روابط القرى» سيئ السمعة، لكن هدفهم كان تقويض فكرة أولمرت لإقامة «دولة فلسطينية منزوعة السلاح على مساحة 95 في المائة من الضفة الغربية و100 في المائة من قطاع غزة، مع الحفاظ على 80 في المائة من المستوطنات اليهودية، وتعويض الفلسطينيين عنها بمنحهم أراضي بمساحة مساوية من الأراضي التي تقوم عليها دولة إسرائيل منذ العام 1948، وتكون عاصمتها القدس الشرقية».
وقد امتنعت السلطة الفلسطينية عن إعطاء رد رسمي، مع أن الرئيس محمود عباس قال إنه يؤيدها، وحينها تم إسقاط أولمرت عن الحكم بعد التحقيق معه في قضية فساد.
نوصي بقراءة: مفوض عام أونروا: “مؤسسة غزة الإنسانية” لا تقدم سوى التجويع والرصاص للفلسطينيين
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في الكنيست 2009 (غيتي)
وفي سنة 2009، التقى يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الحالي الذي كان وزيراً للمواصلات، مجموعة من النشطاء الفلسطينيين من الخليل، وتباحث معهم في فكرة تخفيض مكانة السلطة الفلسطينية إلى حكم ذاتي مدني يتكون من عدة مجموعات سكانية جغرافية، وتبين أنه فعل ذلك من دون تنسيق مع رئيس حكومته، نتنياهو، فتوقف. وجرت محاولات أضعف نسبياً في عام 2011 لإحياء الخطة، لكن من دون جدوى.
في سنة 2019، طرح مجدداً المستشرق الإسرائيلي مردخاي كيدار الخطة وسماها «مشروع الإمارات»، وانطلق من الادعاء بأنه «لا يوجد شعب فلسطيني»، زاعماً أن «القومية الفلسطينية هي أسطورة وهمية، ولا تفلح في التستر على الفوارق ما بين ثقافة نابلس ورام الله والخليل، وأن اتفاقيات أوسلو فشلت، ويجب تفكيك السلطة الفلسطينية الإرهابية، وفرض السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة (التسمية العبرية للضفة الغربية)، والتعاون مع المشايخ المحليين، وفرض نزع السلاح».
فلسطينيون خلال احتجاج على الاستيطان قرب الخليل بالضفة الغربية أبريل الماضي (رويترز)
ويتهكم الفلسطينيون على المشروع وخلفيته، ويقولون إن «هنالك فوارق سحيقة أيضاً بين اليهود، الروسي مقابل المغربي، والإثيوبي مقابل الأشكنازي، فلماذا يعتبرون شعباً، بينما الفلسطينيون لا يصلحون شعباً؟».
بحسب ما نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، قبل أيام، فإن هؤلاء الشيوخ المزعومين من الخليل يريدون اعترافاً متبادلاً مع إسرائيل وإقامة «سلام» على غرار «الاتفاقيات الإبراهيمية». وبحسب مصادر عبرية فإن إسرائيل ستعترف بتلك الإمارات المحلية، مقابل اعترافها بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على المناطق «ج»، والمناطق غير المأهولة في «ب».
وفي اليمين الإسرائيلي يرون هذه المبادرة فرصة لتفكيك السلطة الفلسطينية بالتدريج، ومن دون أن ينشأ فراغ في منظومة الحكم، ومن دون حاجة إلى تنازلات من إسرائيل عن الأرض.
علم فلسطين وخلفه شوارع خالية في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة أبريل 2024 (أ.ف.ب)
وذكرت الصحيفة الأميركية أن في مقدمة المبادرين الشيخ وديع الجعبري، وهو واحد من الشخصيات المركزية في الخليل، وجاء في الرسالة الموجهة إلى الحكومة أن المشايخ يتعهدون بالاعتراف بإسرائيل بوصفها دولة قومية للشعب اليهودي، وإقامة إمارة محلية مستقلة تمثل الشعب العربي في الخليل والمنطقة.
اللافت أن ما نشرته الصحيفة لم يكن تقريراً إخبارياً، بل مقال رأي نشره الصحافي أليوث كاوفمان، وهو رئيس قسم رسائل القراء في الصحيفة.
ويعرف عن كاوفمان بأنه مقرب من نتنياهو ونير بركات، وزير الاقتصاد، الذي تولى مهمة التواصل مع الجعبري.
وأظهر بيان وقع عليه شيوخ عائلة الجعبري (12 شيخاً) في الخليل أن وديع الجعبري ليس منهم، ولا ينتمي إلى الخليل، بل يسكن في القدس، ويحمل جنسية إسرائيلية، وليس مخولاً بالحديث باسمهم.
ورغم ذلك، فإن القيادة الإسرائيلية تحاول تطبيق ذلك باستمرار، إذ قالت صحيفة «معاريف» إن «إسرائيل تدير اتصالات مع شيوخ وقبائل أخرى في شتى أنحاء السلطة الفلسطينية. والانطلاق هو من الفهم بأن المجتمع الفلسطيني ليس رزمة واحدة وتجري فيها اختلافات كبيرة وجدية في اللغة والثقافة والهوية وتظهر بوضوح في كل من الخليل ونابلس وجنين وغيرها من المناطق. في كل مدينة كبيرة تسيطر عائلات وحمائل أساسية ذات قوة وموارد ضخمة وتستطيع أن تتصرف كقيادة».
فلسطيني يقطف الزيتون من حقله في قرية غرب الخليل أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)
لكن الصحف العبرية أشارت إلى أنَّ قادة جهاز الأمن العام (الشاباك) والمؤسَّسة العسكرية الإسرائيلية يُبدون تحفُّظات كبيرة على هذه الخطة، ويرونها فاشلة من البداية. وأكدت مصادر أمنية أنَّ السلطة الفلسطينية تظلُّ شريكاً أساسياً في حفظ الأمن في الضفَّة، وتحذِّر من فوضى محتملة حال تفكيكها من دون بديل منظَّم. وتساءل الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، غادي شمني: «كيف يمكن التعامل مع عشرات العائلات المسلَّحة، لكل منها نظامها؟ ستكون كارثة».