- اعلان -
الرئيسية الثقافة والتاريخ هل أحب المتنبي أخت سيف الدولة؟

هل أحب المتنبي أخت سيف الدولة؟

0

لم يحدث أن حَظِي شاعرٌ عربيٌّ، قديم أو معاصر، بما حظي به المتنبي من عناية واهتمام. لا بل إن ذينك العناية والاهتمام لم يقتصرا على الدارسين والمشتغلين بالنقد وحدهم، بل إن دائرة المحتفين بالشاعر وإرثه الإبداعي، قد بلغت من الاتساع بما يشمل معظم الناطقين بلغة الضاد في الأصقاع العربية المترامية. إلا أن تعقب الكثيرين، بمن فيهم المنافسون والحساد، لتفاصيل سيرة الشاعر، لم يحل دون بقاء الجوانب العاطفية والعشقية من حياته، في دائرة الإبهام والغموض المحير.

وإذا كان في سيرة المتنبي وشعره ما يثبت ولعه بصليل السيوف وشهوة السلطة والحكم، أكثر من المغامرات المتصلة بالمرأة والعشق وملذات الجسد، كمثل قوله «ولا تحسبنّ المجد زقّاً وقينةً، فما المجد إلا السيف والفتْكةُ البكْرُ »، أو قوله «تروقُ بني الدنيا عجائبُها ولي فؤادٌ ببِيض الهند لا بِيضها مُغرى»، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المتنبي قد أغلق عينيه عما يراودهما من ألق الأنوثة الساحر، أو أصمَّ أذنيه عن النداءات المتعاظمة للرغبات. لكن ما يلفتنا في شعر المتنبي المتعلق بالمرأة هو خلوه من تسمية النساء اللواتي أحطن به بالاسم. فلا ذكْر أبداً لاسم أمّ أو أخت أو حبيبة أو زوجة، بحيث لم يكن لنا أن نعرف شيئاً يُذكر بشأن زواجه وإنجابه، لولا حديث المؤرخين عن مقتل ابنه محسَّد إلى جانبه، في الكمين الغادر الذي أعدّه له فاتك الأسدي عند أطراف بغداد.

الواقع أن غياب التسميات النسائية الصريحة عن ديوان أبي الطيب لا يمكن تفسيره إلا في إطار السلوكيات المتحفظة للشاعر، إزاء كل ما يتعلق بالمرأة والحب، إضافة إلى أن أناه المتفاقمة دفعته إلى الاعتقاد بأنه هو بالذات الاسم الذي تمّحي فيه أسماء الدائرين في فلكه. ورغم أن رثاءه لجدته قد كشف عن موقعها الاستثنائي داخل نفسه المجهَدة، وبدا نكوصاً مشبعاً بالحنين نحو أرض الطفولة النائية، فهو لم يستطع إخفاء نزوعه النرجسي عن الأعين، حين خاطبها بالقول «ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍ، لكان أباكِ الضخم كونكِ لي أُمّا».

اللافت أيضاً أن المتنبي لم يفرد للمرأة والحب قصائد قائمة بذاتها، بل اقتصر هذا الباب على مطالع القصائد التي توجه بها إلى ممدوحين متفاوتي الأهمية، لم يحوزوا باستمرار على إعجابه الفعلي. ومع أن بعض أبيات المتنبي الغزلية لا يخرج عن سياق النماذج والأساليب التي لم يملّ من تكرارها شعراء العصرين الجاهلي والإسلامي، فإن بعضها الآخر يتسم بالجدة والابتكار وبُعد الدلالة. فالشاعر الذي يستهل واحدة من مدائحه بالقول «أريقكِ أم ماء الغمامة أم خمر؟ بفِيَّ بُرودٌ وهو في كبدي جمرُ»، هو نفسه الذي يظهر قدرته الفائقة على توليد المعاني المبتكرة ذات الطابع الفلسفي، كما في قوله «تناهى سكون الحسن في حركاتها، فليس لراءٍ وجهها لم يمتْ عذرُ».

وفي حين تتسم أغلب نصوص المتنبي الغزلية بالعفة والخفر، إزاء كل ما له علاقة بالمناحي الغرائزية والشهوانية، فإن الإشارات الحسية التي تشي بها نصوص أخرى، كالحديث عن اللثم والعناق وحلاوة القبل، هي من التواضع والاحتشام، بما لا يكاد يجاري طموحات العذريين في هذا المجال.

أما لجوء الشاعر إلى استخدام صيغة الجمع في حديثه عن النساء، إضافة إلى استمرائه صيغ التعميم والخلاصات الحكمية، فقد يكونان ناجمين عن افتقاره إلى الحب الحقيقي الملموس أحياناً، أو عن رغبته الموازية في جعل التعميم نوعاً من «التعمية» على شؤونه العاطفية الخاصة أحياناً أخرى، كما في قوله:

تخلو الديارُ من الظباء وعندهُ من كل تابعةٍ خيالٌ خاذلُ

ألراميات لنا وهنّ نوافرٌ والخاتلاتُ لنا وهنّ غوافلُ

كافأننا عن شِبْههنّ من المها فلهنّ في غير التراب حبائلُ

وإذا كان موقف المتنبي المحافظ والمتعفف من المرأة هو الذي يفسر انحيازه إلى الجمال البدوي المتلفع ببراءته، في وجه الجمال الحضري المثقل بالمساحيق، فلشدّ ما يستوقفنا بالمقابل إظهاره المرأة في صورة الكائن المرادف للمكر والغدر والخداع، في أبيات من مثل «إذا غدرتْ حسناء وفَّتْ بعهدها، فمن عهدها أن لا يكون لها عهدُ». وهو ما يبعث على التساؤل عما إذا كانت مثل هذه الرؤية ناجمة عن التأمل المحض في شؤون النساء وطبائعهن، أم أنها ثمرة تجارب الشاعر ومعاناته القاسية مع النساء.

على أن الحديث عن عشق المتنبي يصعب أن يستقيم دون التطرق إلى طبيعة علاقته بخولة، أخت سيف الدولة الكبرى، التي ظلت على الدوام أقرب إلى الفرضية المحفوفة بالشكوك منها إلى اليقين القاطع. وإذا كانت قصيدة أبي الطيب في رثائها هي «الوثيقة» شبه الوحيدة التي اعتمدها النقاد والباحثون دليلاً على وجود علاقة عاطفية بين الطرفين، فإن في هذا الدليل الكثير من الإشارات الدالة على ما كان يكنّه لها من مشاعر الهيام والافتتان.

تصفح أيضًا: الحب في زمن الاحتلال

وفي حين ينفي البعض وجود علاقة خاصة بين المتنبي وخولة بدعوى أن رثاء امرأة متوفاة لا يقيم حجة قاطعة على عشق الراثي لها، فإن آخرين يردون على ذلك بالقول إن في رثاء الشاعر لأخت سيف الدولة الأخرى ما يقدم براهين ساطعة الوضوح على أن علاقة الشاعر بالأختين الراحلتين لم تكن هي نفسها على الإطلاق.

ففي رثاء الأخت الصغرى التي رحلت قبل شقيقتها بثمانية أعوام، يشغل امتداح المتنبي لسيف الدولة معظم أبيات القصيدة، وتتم التغطية على البرود العاطفي، باجتراح العظات واللقى التعبيرية المناسبة. ومع أن بين هذه اللقى ما يرقى إلى ذروة المعاني الإنسانية المبتكرة، كقول الشاعر «وإذا لم تجد من الناس كفْئاً، ذات خِدْرٍ أرادت الموتَ بعلا»، فإن القصيدة بمجملها كانت أقرب إلى التأمل الوجودي في الموت منها إلى الأسى العميق ومرارة الفقدان. أما رثاء المتنبي لخولة فقد بدا خارجاً من شغاف قلبه، ومضطرماً بنيران أخرى، تختلف تماماً عما هو سائد في تأبين الراحلين، وليست لتقع في باب الرثاء العادي أبيات من مثل:

طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ

حتى إذا لم يدع لي صدْقُهُ أملاً شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي

أرى العراقَ طويلَ الليل مذ نُعيتْ فكيف ليل فتى الفتيان في حلبِ

وإذ يردّ المتنبي على ما يظنه تشكيك سيف الدولة بحزنه الفعلي على أخته، مؤكداً ما بقلبه من حرقة وبعينيه من دموع، لا يتردد بالمقابل في الحديث عن حسْن مبسم الراحلة وبرد ريقها، الأمر الذي أخذه عليه الواحدي في نقده، ليس فقط لأن في ذلك تجرؤاً بالغاً على قريبات الأمراء والحكام، بل لأنه خلط، متعمد أو غير متعمد، بين مقام الرثاء ومقام الغزل.

وحيث لم يكن بمقدور الشاعر أن يميط اللثام عن تفاصيل تولهه بخولة في معرض رثائه لها، فإن الإشارات التي راح يبثها في القصيدة كانت كافية تماماً لتركنا في دوامة من الألغاز، كمثل قوله «ولا ذكرتُ جميلاً من صنائعها، إلا بكيتُ ولا ودٌّ بلا سبب». فأي سبب مولِّد للبكاء والود أكثر من تتيمه البالغ بالأميرة الراحلة. وأغلب الظن أن خولة نفسها هي المعنية بالمطلع العشقي الفريد الذي استهل به المتنبي مديحه لسيف الدولة إثر هربه من كافور وقدومه إلى الكوفة، خصوصاً وأن في ذلك النص من الرقة وشجى النفس، ومناجاة الجمال المشرف على الأفول، ما يبعث على الاعتقاد بأنه مُهدى للمرأة نفسها، التي كانت تستعد آنذاك لمغادرة هذا العالم، ومن أبياتها قوله:

ما لنا كلُّنا جوٍ يا رسولُ أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ

كلما عاد من بعثتُ إليها غار مني وخان فيما يقولُ

زوّدينا من حسن وجهكِ ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا فإن الُمقام فيها قليلً

ومع أننا لا نملك بشأن عشق المتنبي لخولة ما يُخرجنا من مقام الحيرة إلى مقام اليقين القاطع، فإننا لا نعدم الإشارات الكثيرة الدالة على مثل هذا العشق. لكن السؤال الذي تتعذر الإجابة عنه هو ما إذا كانت خولة من جهتها قد بادلت شاعرها المتحالف مع القلق، حباً بحب. ولأن زمنها ومقامها لم يساعداها على الإفصاح عن مكنونات قلبها المكلوم، ولم يضف التاريخ إلى صمتها المطبق شيئاً يذكر، فإن الإجابة عن السؤال المطروح ستظل في عهدة الغيب، حتى إشعار آخر، أو كشوف مفاجئة.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version