يبدو الخيال المجنح المتحرر من أسر المنطق وقيود الواقع بطلاً فاعلاً في المجموعة القصصية «يعبر الزمن على دراجة»، الصادرة أخيراً عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة للكاتب والروائي المصري حسين منصور، الذي يكتب نصوصه منحازاً للضعف الإنساني وبحث البشر عن لحظة حقيقية من الخلاص وسط واقع مخيف يدعو للتشاؤم والرعب والرؤى الكابوسية.
يوقظ منصور ما يمكن وصفه بـ«الكتابة النائمة»، التي تسير داخل اللاوعي منتجة رؤى حالمة تُترجم في شكل فقرات تتأرجح بين الأحلام والمخاوف، واللافت هنا قدرة الكاتب على رسم الخيال في هيئة كلمات حية لا يمكن تغييرها لأنها في موضعها تماماً كصورة متكاملة يصعب استبعاد أي عنصر منها.
تصفح أيضًا: حين حاكم يوسف شاهين نفسه
تحولات مخيفة تصيب الشخصيات عبر قصص المجموعة، فقد يتحول المسافرون على متن طائرة إلى دمى قاتلة، لكن الراوي يستطيع أن يروضها بحنكة، وربما يصبح السرير ميداناً فسيحاً لا تبلغ نهايته مهما سرت فيه، ولا تندهش إذا وجدت أباً مثقلاً بالأعباء يدرك أنه في الحقيقة مجرد شبح يطل على الواقع بعد رحيله عنه بسنوات، بينما المرأة التي بدت عاشقة في البداية تتحول إلى طائر أسود عملاق ينقر رأس من كان سيقع في غرامها قبل قليل.
في قصة «رأيت ما لا ترون»، نقرأ: «على رصيف المقهى، جلس يدفئ يديه بكوب من الشاي. ودّ للحظة أن يشعر ببراءته فخلع ملابسه ووقف وسط الشارع. غسله المطر الغزير ورسمت أضواء السيارات على جسمه قوس قزح. شعر ساعتها بنشوة غامرة، فمد ذراعيه ومال برأسه ناظراً إلى الأعلى فرأى الكون فسيحاً وشعر بنفسه حراً فرفرف بذراعيه طائراً نحو السماء. شيئاً فشيئاً، تخلص من أضواء السيارات على جسمه وبعد انحسار المطر عاد إلى رصيف المقهى وملابسه التي بللها الماء فارتداها وهام في الشوارع، يحدث الناس عن عالم الأرواح عن النور عن الرحمة».
وفي قصة «يعبر الزمن على دراجة»، نقرأ: «لم يكن أبي يراجعني في حلم قصصته أو حكاية حكيتها مهما كانت غريبة، فلا يسألني عن الرجل الذي نبتت له أجنحة وطار حتى ارتفع إلى مئذنة الجامع… كيف طار؟ ولم يكن يكذبني في حكاية الذئب الذي قابلني، وأنا عائد من المدرسة فقذفته بطوبة أصابت عينه فأسرع إلى أمه يبكي كجرو صغير. ولا يستفسر كيف ركبت على ظهر الحوت، وطاف بي في البحر وفرجني على كل شيء فيه، الأسماك الملونة والقروش والشعاب المرجانية التي نراها في كتاب العلوم. ولم يكن أبي يستغرب حكاياتي عن الجنيات والعفاريت التي أراها في الظلام، فلا أخاف منها، بل كان يستحثني على الاستمرار في الحكي بسؤاله: وماذا بعد؟».