تحوي دولة الإمارات العربية سلسلة من المواقع الأثرية، منها موقع دِبَا الحصن الذي يحمل اسم المدينة الساحلية التي تُشرف على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عُمان، وتُشكّل الامتداد الشرقي لإمارة الشارقة. خرجت من هذا الموقع مجموعات متنوعة من اللقى، منها قطع عاجية، تضمّ مشطين من العاج زُيّنا بنقوش تصويرية متقنة، لا نجد إلى يومنا هذا ما يماثلهما في ميراث الإمارات الأثري.
عُثر على هذين المشطين في عام 2004 خلال حملة مسح وتنقيب قامت بها بعثة تابعة لـ«هيئة الشارقة للآثار» في موقع دِبَا الحصن. أدّت هذه الحملة إلى الكشف عن قبر جماعي يعود إلى مطلع القرن الميلادي الأوّل، ضمّ ما لا يقلّ عن خمسة عشر جثماناً، جرى دفنها مع حللها وحاجياتها الخاصة، وفقاً للطقوس المتبعة في ذلك الزمن. حوى هذا الأثاث الجنائزي مجموعة كبيرة من اللقى تشهد على تعددّية كبيرة في الأساليب، تميّزت بها هذه الناحية من الخليج منذ القدم. تنقسم هذه المجموعة بحسب موادها إلى مجموعات عدة، منها قطع عاجية صغيرة، يتبع مجملها تقليداً فنياً محلياً يعتمد أسلوب التحوير والاختزال الهندسي.
شواهد هذا التقليد عديدة، وتتمثّل في قطع مشابهة خرجت من مواقع أثرية أخرى في الإمارات، منها موقع مليحة الذي يبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة، وموقع الدُّور الذي يتبع إمارة أم القيوين، ويطلّ على الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وموقع أعسمة الذي يمتد في جبال الحجر، ويتبع إمارة رأس الخيمة. تحوي مجموعة عاجيّات موقع دِبَا الحصن مشطين يخرجان بشكل جذري عن هذا التقليد، ويتجلّى ذلك في نقوشهما التصويرية التي تزيّن وجه وظهر كلّ منهما.
عُثر في مواقع الإمارات الأثرية على عدد كبير من الأمشاط العاجية تعود إلى حقب متعدّدة، وتزيّن هذه الأمشاط نقوش زخرفية تجريدية، تشمل في بعض الأحيان بعض العناصر النباتية المحوّرة هندسياً، وفقاً لتقليد عابر للحضارات، مصدره كما يبدو بلاد الهند والسند. يماثل مشطا دِبَا الحصن هذه الأمشاط من حيث الشكل والتكوين، ويتميّزان بنقوشهما التصويرية المتقنة التي تجعل منهما أثرين فنيين فريدين من نوعهما في ميراث الإمارات الأثري. يأخذ أحد هذين المشطين شكلاً مربعاً؛ إذ يبلغ طوله 8.6 سنتيمترات وعرضه 9 سنتيمترات، وتحدّه سلسلة من الأسنان بلغ عددها في الأصل 44 سناً. في المقابل، يأخذ المشط الآخر شكلاً مستطيلاً، ويبلغ طوله 8.5 سنتيمترات، وعرضه 13 سنتيمتراً، وتحدّه سلسلة من الأسنان بلغ عددها في الأصل 66 سناً.
اقرأ ايضا: محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي
خضع هذان المشطان لعمليّة ترميم متأنية، وظهرت نقوشهما بشكل جليّ بعد تنقيتها. يحمل وجه المشط المربّع لوحة تشكيلية مستطيلة أنجزت بتقنية الحفر، قوامها ثلاثة أفراد يحضرون في وضعية نصف جانبية داخل غرفة تحوي فراشاً وثيراً، يمتدّ تحت نافذة مستطيلة، تتكوّن من مساحتين أفقيتين زيّنت كلّ منهما بشبكة من الخطوط المتشابكة. فوق هذا الفراش، رجل وامرأة في جلسة حميمة، وفي مواجهتهما امرأة تتقدّم في اتجاههما لتقوم بخدمتهما. يظهر الرجل عاري الصدر، مرتدياً مئزراً يلتف حول خصره، ويتبع هذا المئزر الزي الهندي التقليدي المعروف بالـ«لنكی». تظهر رفيقته كذلك عارية الصدر، مرتدية مئزراً طويلاً يلتف حول ساقيها، ويتبع هذا اللباس النسق الهندي المعروف بالـ«دوطي». تزيّن وسط أعلى جبين هذه المرأة لؤلؤة، تُمثّل ما يُعرف بالـ«بِنْدِي»، وهي قطرة الزينة الحمراء التي توضع فوق جبهة العروس الهندية، وتكون على شكل نقطة حمراء ترمز إلى ارتباطها بعريسها.
يلفّ الرجل ذراعه اليسرى حول ظهر رفيقته، ويتطلّع في اتجاهها. وتلفّ المرأة ذراعها اليسرى حول ظهر رفيقها في حركة موازية، وتحني وجهها في اتجاه ساقيها الممددتين على الفراش، في وضعية هندية تقليدية. في الجانب الآخر، تتقدّم الخادمة في اتجاه الزوجين، حاملة طبقاً صغيراً ترفعه بيدها اليسرى نحو الأعلى. صُوّرت هذه الخادمة بمقياس مغاير، وبدت أصغر حجماً، ويعكس هذا الحجم موقعها التراتبي في هذا المشهد الجماعي.
زُيّن ظهر هذا المشط بلوحة أخرى مستطيلة اتّخذت طابعاً نباتيّاً صرفاً، قوامها زهرة بيضاوية كبيرة تحدّها سبع بتلات، حولها مجموعة من الأوراق، في توزيع حرّ يخرج عن النسق الهندسي. مثل اللوحة التصويرية التي تزيّن وجه المشط، تتبع هذه اللوحة النباتية أسلوباً هنديّاً يتجلّى في صوغ أشكالها، كما في صوغ تأليفها الجامع.
تتبع نقوش المشط المستطيل أسلوباً مماثلاً، وتتمثّل زينته بلوحة تزيّن وجه هذه القطعة، وأخرى تزيّن ظهرها. تجمع لوحة الوجه بين مشهدين تفصل بينهما مساحة عمودية، أحدهما وصل بشكل كامل، والآخر فقد جزءاً كبيراً من عناصره. يمثّل المشهد الأول جلسة أخرى حميمة، بين رجل وامرأة في وضعية مشابهة، وفيها يظهر وجها الزوجين في وضعية جانبية، منحنيَين الواحد في اتجاه الآخر. ويمثّل ما بقي من المشهد الثاني امرأة عارية الصدر، ترفع ذراعها اليمنى باتجاه كتفها اليسرى. في تأليف مشابه، يظهر على ظهر المشط أسد جاثم في وضعية جانبية، تفصل بين مقدّمته ومؤخرته مساحة أفقية تعلوها ثلاثة عواميد.
تتبع هذه الصور أسلوباً هندياً تميّزت به الإمبراطورية الكوشانية التي تأسست في أوائل القرن الأول الميلادي في مقاطعة باختر التي نعرفها باسم بلخ، وبلغت نواحي كابول في أفغانستان. وشواهد هذا الأسلوب في هذه الأقاليم عديدة، ومنها عاجيات تُماثل بعناصرها مشطَي دبا الحصن الأثري، وأشهر هذه العاجيات تلك التي خرجت من مواقع بغرام وتاكسيلا وتيليا تيبي، بين باكستان وأفغانستان.