- اعلان -
الرئيسية الثقافة والتاريخ «أبو القمصان»… جذور الاستعباد

«أبو القمصان»… جذور الاستعباد

0

في روايته «أبو القمصان»، الصادرة في القاهرة عن دار الأدهم، يواصل الروائي المصري خالد إسماعيل انشغاله بالمنحى الواقعي، المهموم بتفكيك ونقد المشكلات الاجتماعية والثقافية التي تكبل المجتمع المصري وتعوقه عن التقدم، بما يمثل نهجاً فكرياً وسردياً في مشروعه الروائي كله تقريباً، بخاصة مشكلات صعيد مصر الذي ينتمي له المؤلف. وفي هذه الرواية يعاين العبودية التي كانت سائدة في حقب قديمة، وما زالت آثارها رابضة تحت جلد المجتمع، وراسخة في اللاوعي الجمعي، ممارسة فعلها السلبي رغم مرور عقود طويلة على انتهاء الرق رسمياً.

يبدو حضور الأزمة واضحاً منذ عنوان الرواية وعتبتها الأولى، فاختيار اسم «أبو القمصان» يحيل مباشرة إلى سيرة أبي زيد الهلالي، وصنوه «أبو القمصان»، فالبطل «سعيد جوهر أبو القمصان» يحمل وصمة الجد ذي البشرة السوداء، ومكانته الطبقية المتدنية في الترتيب الهرمي للعائلات في الصعيد، حيث لم تزل البنية القبائلية والعائلية مهيمنة هناك. ورغم أن سعيد يدرس في كلية الآداب، ويتمتع بقدر معقول من الثقافة والوعي، ورغم أن جده هرب إلى القاهرة لائذاً بانفتاحها من مصيره واستعباده في الجنوب،، فإن لون بشرته السوداء لم يزل يمثل له ندبة في روحه، ويشعر بتدنيه الاجتماعي، وما يعمق أزمته النفسية أن والده – المقهور أيضاً اجتماعياً – كان يعامله بتسلط واستبداد، فتراكمت الندوب في روحه.

الرواية – رغم تكثيفها وقصرها – تعاين مساحة زمنية ممتدة، إذ تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، متقصية الجذور القديمة للبناء القبلي، واستقدام العبيد من دول أخرى ليعملوا في الأراضي الزراعية التي يملكها سادة القبائل والعائلات المتميزة اجتماعياً، في مقابل المخزون الثقافي من المحكيات والمرويات التي ترسخ الصورة الذهنية المتدنية للعبد. تراوح الراوية بين الأزمنة المختلفة، والأنساق الثقافية المتباينة، وكلها تساهم في تكريس هذه الصورة، حتى في أحد المنتديات الثقافية التي يحضرها سعيد، فإن أحد الشعراء الشبان يستعيد قصيدة المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي، التي يقول فيها «لا تشتري العبد إلا والعصا معه… إن العبيد لأنجاس مناكيد»، في إشارة إلى الحصار النفسي الذي يواجهه البطل في كل مكان، من البيت إلى الشارع إلى التاريخ، وحتى في المنتديات الثقافية التي يفترض فيها مجاوزة الوعي القديم إلى وعي الحداثة.

نوصي بقراءة: «الإعلام» الكويتية تقرّ آلية جديدة لإجازة العروض المسرحية والفنية لمنع «المحظورات»

سعيد – الذي يتناقض اسمه مع سيرة حياته – يمثل نموذجاً البطل المأزوم، ويشعر داخلياً بحالة من الذلة والمهانة والعار من إرثه العائلي، فيهرب من قسوة والده، وخنوع إخوته لهذا الاستبداد، ومن البشرة السوداء التي تحاصره في المنزل، في محاولة لبناء هوية جديدة، والاستقلال عن الجذور القديمة، لكنه يهرب إلى عبوديات أخرى، سواء عبودية الصداقة، أو عبودية الحب، إذ ينتقل للعيش لدى أقرب أصدقائه «يونس الهلالي»، ابن قبيلة بني هلال، الذين كانوا يستعبدون أجداد البطل، ورغم قشرة الحداثة الآنية، فإن يونس – الثري ابن الأثرياء – يستعبده بالإنفاق عليه، ولا يكف عن تذكيره بأنه يعامله كصديق، مثلما كان أبو زيد الهلالي يعامل العبد أبو القمصان، لكنه جوهريا يستعبده بالإنفاق عليه، ويحرص على أن يكون اليد العليا التي تنفق على الصديق الفقير، حفيد العبيد. وعلى المستوى العاطفي، يلتقي سعيد في أحد المنتديات، بفتاة أرستقراطية، ويقع في حبها، ويساعدها في أبحاثها ويكتبها لها، لكنه في النهاية يكتشف أنها تستغله، أو تستعبده عاطفياً، ومرتبطة في الخفاء بصديقه يونس الهلالي، فيقتلها انتقاماً منها، إنه في الحقيقة كان يقتل رمزياً كل تاريخ الاستعباد الذي حاصره طوال حياته، ولم يستطع الفكاك منه.

تعتمد الرواية في بنيتها على تضمين العديد من الفنون الأخرى، مثل فن الرسائل، إذ تحتل رسالة فرج أبوالقمصان – عم سعيد – إلى الإمام الشافعي مساحة كبيرة من بنية السرد في الرواية، وإرسال خطابات إلى مقام الإمام الشافعي طقس شعبي معروف في الثقافة الشعبية المصرية، اعتقاداً بأن كرامات الإمام تحقق الأمنيات والدعوات المدونة في هذه الرسائل. هذه الرسالة، التي وجدها سعيد مصادفة في صندوق جدته بعد وفاتها، كان قد كتبها العم فرج وأرسلها في أثناء مشاركته في حرب اليمن، وقبل استشهاده هناك، ويحكي فيها للإمام ما يلاقيه من متاعب في الحرب، وأيضاً ما يواجهه من قهر من الشاويش والصول اللذين يضطهدانه، ويناشد الإمام أن ينقذه من متاعبه وآلامه ليعود إلى الوطن.

تنتقل الرواية مكانياً إلى عدة فضاءات متباينة، كلها تمثل أمكنة لقهر واستعباد أبناء هذه العائلة المنكوبة، من فضاء السجن الذي يقطن فيه سعيد بعد تورطه في جريمة قتل، إلى فضاء الوحدة العسكرية في اليمن، إلى فضاءات قرى الصعيد في محافظات قنا وسوهاج وبني سويف، حيث يرتحل أبناء العبيد من مكان لآخر بحثاً عن خلاص، ليقعوا من جديد في براثن استعباد وقهر جديد، فضلاً عن فضاءات القاهرة، خاصة في أحيائها الشعبية والعشوائية الفقيرة، وحتى عندما تعيش أسرة البطل في حي عريق من أحياء الطبقة المتوسطة، فإنها تعيش في غرف متواضعة أعلى سطح البناية، غرف مخصصة للخدم، فهم دوماً في الهامش.

يحفر الروائي خالد إسماعيل في سلاسل الأنساب، حتى تبدو الرواية حفراً أركيولوجياً يبحث عن جذور القهر الراهن، الذي يتوارثه الأحفاد من أجدادهم، كقدر محتوم لا فرار منه، رغم طموحهم في الارتقاء الطبقي. فاضحاً التناقض الفادح بين مظاهر الحداثة المادية في تفاصيل الحياة اليومية، وجاهلية الوعي المستقر الذي يعيد إنتاج نفسه. كما يمنح السارد مساحة كبيرة لشخوص الرواية ليعبر كل منهم عن صوته الخاص وخطابه، تاركاً كل شخصية تتحدث عن نفسها وتقدم خطابها الذاتي، عبر مساحات الحوار، الذي يكاد يكون مساوياً لمساحة السرد في الرواية.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version