- اعلان -
الرئيسية الثقافة والتاريخ «الفوضى في الشِّعر العباسي» بوصفها «نظاماً آخر»

«الفوضى في الشِّعر العباسي» بوصفها «نظاماً آخر»

0

لا تقرأ الباحثة الأردنيّة الدكتورة نهال عبد الله غرايبة، عبر كتابها الجديد «نظرية الفوضى في الشعر العباسي من التمرد إلى الجمال – مقاربة نصية في شعر أبي نواس وأبي تمام والمتنبي»، الفوضى بوصفها اضطراباً أو تشويشاً، بل بوصفها نظاماً آخر، متخفّياً في قلب اللامتوقَّع، نابضاً في عمق القصيدة، حيث تسكن اللغة في حدود الانفجار، ويتقاطع الإبداع مع العلم، ويولَد الجمال من رحم التنافر.

الكتاب، الصادر حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون»، الأردن (2025)، هو بمثابة رحلة تأمُّل في صميم الشعر العربي حين يخلخل نسقه، ويعيد ترتيب عناصره بوعيٍ وجوديٍّ وثقافيٍّ جديد.

وقد جاء بناء الكتاب موزعاً على مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة. وقد خُصص التمهيد لتقديم تصور شامل لمفهوم الفوضى، من حيث نشأتها وتطورها، مع إبراز علاقتها بالعلوم الطبيعية والإنسانية، وبيان امتداد تأثيرها إلى الحقول الأدبية والفكرية.

وفي تقديمها للكتاب تُبيِّن الدكتورة غرايبة أن الدراسات النقدية المعاصرة «شهدت في العقود الأخيرة تحوّلاً لافتاً نحو توسيع أفق القراءة الأدبية، وذلك عبر توظيف مناهج مستمدة من العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية، وفي هذا الإطار يأتي هذا الكتاب ليسهم في إثراء الحقل النقدي بدراسة تتجاوز الأطر التقليدية في تحليل الشعر العربي القديم، من خلال مقاربة تقوم على توظيف «نظرية الفوضى» بوصفها إحدى النظريات العلمية التي لاقت حضوراً لافتاً في الحقول الإنسانية والفكرية، لا سيما الأدب والنقد. وهي تعد أحد أهم إنجازات ما بعد الحداثة في انتقال المنهج من التفسير الخطِّي إلى استكشاف الديناميات اللاخطِّية التي تحكم الظواهر اللغوية والجمالية والفكرية.

وقد اختير كلٌّ من أبي نواس وأبي تمام والمتنبي بوصفهم ثلاثة من أبرز شعراء العصر العباسي الذين تجاوزوا بنى القصيدة التقليدية، ولكونهم يمثلون نماذج شعرية متميزة في الخروج على استراتيجيات الشكل والمضمون للقصيدة العربية، كلٌّ بطريقته، وكلٌّ بفوضاه الخاصة، التي لا تُعد خللاً بل نظاماً جديداً يولد من قلب التمرد والانزياح، ويشكّل بؤراً جمالية تحمل خصائص النص الحداثي».

اقرأ ايضا: الشعر بين نداء العاشق وهتاف الحياة

أما الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب، فقد خُصصت لدراسة استراتيجيات الفوضى في شعر كل من أبي نواس وأبي تمام والمتنبي، على الترتيب، مع التركيز على تفكيك البنى الشعرية والموضوعاتية في نصوصهم، وتحليل تحوّلات المعنى والصورة والأسلوب، بما يكشف عن مظاهر الانزياح والتشظي التي تعكس حضور الفوضى في بنية القصيدة.

في حين تناول الفصل الرابع «بلاغة التشويش» بوصفها مظهراً مركزياً من مظاهر الفوضى الفنية، حيث تم الوقوف على أبعادها المعجمية والدلالية والجمالية.

أما الخاتمة، فقد تضمنت عرضاً لأبرز النتائج التي خلصت إليها الدراسة، وجاء فيها:

«في هذا الكتاب، سعيت إلى تقديم مقاربة شاملة لنظرية الفوضى، من خلال تتبع جذورها الفكرية والعلمية في مختلف مصادرها، واستكشاف تجلياتها في الشعر العربي العباسي، عبر تحليل استراتيجياتها الجمالية والفكرية في نماذج مختارة من شعر ثلاثة من أعلامه: أبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، وقد تبيّن من خلال هذه الدراسة أن كلّ شاعر من هؤلاء أسّس لنظام شعري خاص به، خرج فيه على بنى القصيدة التقليدية، وابتكر فضاءً فوضوياً منضبطاً، أعاد من خلاله تشكيل المعنى، وبناء الذائقة، وصياغة الوعي الجمالي».

وكشفت الدراسة عن أن فوضى أبي نواس لم تكن مجرد تمرد أسلوبي، بل كانت خطاباً فكرياً حادّاً، واجه به المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية، عبر تقويض قيمها وتفكيك بنيتها من الداخل، فصوته الشعري جاء معارضاً، ثائراً، يعيد رسم حدود المسموح والممنوع. أما أبو تمام، فقد تجلّت فوضاه في إحداث قطيعة مع البلاغة القديمة، ليبني جماليات جديدة تُعلي من شأن التعقيد والغموض، وتفتح باب الشعر على احتمالات التأويل والتعدد والانزياح، مؤسساً لعقد جمالي جديد. أما المتنبي، فقد مارس فوضاه ضمن بنية المدح التقليدية، غير أنه أعاد توجيهها لتكون أداة لتمجيد الذات، فأزاح الممدوح إلى الهامش، ورفع الشاعر إلى مركز النص، مشكّلاً بذلك بنية شعرية جديدة تنطلق من تفوق الذات الشاعرة وتأسيسها لمؤسسة شعرية مغايرة.

وقد خلصت الدراسة أيضاً إلى أن بعض التقنيات الشعرية -كالانزياح الدلالي، والمفارقة، وثنائية المحو والكتابة- لعبت دوراً جوهرياً في بناء «بلاغة التشويش»، بوصفها وسائل فنية تهدف إلى كسر أفق توقع المتلقي، وتحفيزه على التفكير، وتأويل النصوص في ضوء احتمالات غير مألوفة، مما يعزز البعد الفوضوي بوصفه عنصراً جمالياً فاعلاً.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version