في أغسطس (آب) 2025، أصدرت الهيئة العامة لتنظيم مهنة طب الأسنان في بريطانيا (General Dental Council – GDC) واحداً من أهم تقاريرها البحثية على الإطلاق، تحت عنوان: «تقديم خدمات طب الأسنان باستخدام الذكاء الاصطناعي: تقييم سريع للأدلة» (Artificial Intelligence in Dental Service Provision: A Rapid Evidence Assessment).
وكان هذا التقرير ثمرة عمل علمي دقيق أنجزه فريق بحثي من كلية طب الأسنان بجامعة بليموث، بالاعتماد على منهجية التقييم السريع للأدلة (Rapid Evidence Assessment – REA)، وهي آلية علمية تجمع بين صرامة المراجعات المنهجية الكاملة وسرعة الدراسات الجزئية، لتوفر لصنّاع القرار صورة واضحة ومبنية على الدليل، في فترة زمنية وجيزة.
ويُعدّ هذا النهج أداة مثالية حين يتعلق الأمر بمجالات سريعة التغيُّر، مثل الذكاء الاصطناعي، حيث يحتاج الطبيب والباحث والمشرّع إلى رؤية متوازنة لا تغفل الصرامة العلمية، ولا تستغرق سنوات في انتظار النتائج.
انطلق المشروع، في سبتمبر (أيلول) 2024، بخطوة غير تقليدية: مراجعة شاملة لأكثر من 3800 دراسة منشورة في مجلات طبية وعلمية تناولت استخدامات الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان.
لكن الكثرة لا تعني بالضرورة الجودة؛ فبعد سلسلة من عمليات التمحيص الدقيقة وفق معايير الصدقية والمنهجية والارتباط بالواقع الإكلينيكي، لم يتبق في يد الباحثين سوى 45 دراسة فقط اعتُبرت جديرة بالتحليل المتعمّق.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: 18 دراسة من الصين، و13 من الولايات المتحدة، بينما خلا السجل تماماً من أي دراسة بريطانية، على الرغم من أن التقرير بريطاني المنشأ.
ويثير هذا الغياب سؤالاً علمياً وأخلاقياً في آن واحد: هل فقدت أوروبا – التي كانت يوماً ما رائدة في تأسيس مدارس طب الأسنان الحديثة – زمام المبادرة لصالح الشرق المتسارع (الصين) والغرب البعيد (أميركا)؟ أم أن الحذر الأوروبي في اعتماد تقنيات جديدة جعلها تتأخر عن ركب التجارب الميدانية التي تجري بوتيرة متسارعة في أماكن أخرى؟
يكشف التقرير أن الذكاء الاصطناعي لم يعد حبيس الأوراق البحثية أو مؤتمرات المستقبل، بل بدأ فعلياً يطرق أبواب عيادات الأسنان حول العالم. وما كان يُنظر إليه منذ سنوات كخيال علمي، أصبح اليوم واقعاً تجريبياً يتوسع بخطى متسارعة. ومن أبرز التطبيقات التي رصدها التقرير:
1. الروبوتات الجراحية: يأتي في المقدمة الروبوت الأميركي «Yomi»، الذي يمثل ثورة في مجال زراعة الأسنان؛ إذ يعتمد على ذراع روبوتية موجهة بالحاسوب لتثبيت الغرسات بدقة ملليمترية، مع تقليل هامش الخطأ البشري.
وأظهرت دراسات سريرية أن نسبة نجاح الزرعات باستخدام «Yomi» بلغت نحو 98 في المائة، متفوقة على الطرق الجراحية التقليدية، مع تقليص وقت العملية وتسريع فترة النقاهة.
2. خوارزميات التعلُّم العميق (Deep Learning): تُعد هذه الخوارزميات أشبه بـ«العين الثانية» للطبيب؛ إذ تقوم بتحليل صور الأشعة البانورامية والمقطعية ثلاثية الأبعاد (CBCT) لاكتشاف التسوس المبكر أو تحديد فقدان العظم السنخي المرتبط بأمراض اللثة.
وطورت بعض الشركات تطبيقات يمكن تنزيلها على الهواتف الذكية تتيح للمريض التقاط صورة داخل فمه والحصول على تقدير أولي لحالته، مما قد يفتح الباب أمام الوقاية الاستباقية قبل الحاجة إلى التدخل الإكلينيكي.
3. التعلم الآلي الخاضع للإشراف (Supervised Machine Learning): حظي مجال طب أسنان الأطفال بنصيب ملحوظ من هذه الأبحاث، حيث استُخدمت الخوارزميات للتنبؤ باحتمال حدوث التسوس استناداً إلى الأنماط الغذائية والسلوكية والعوامل الاجتماعية.
كما ساعدت هذه التقنيات في الكشف المبكر عن مشاكل الإطباق (Malocclusion)؛ ما يتيح للطبيب التدخل في سن مبكرة وتفادي مضاعفات مستقبلية معقدة.
4. طب الأسنان عن بُعد (Teledentistry): في عصر ما بعد الجائحة، اكتسب هذا المجال أهمية مضاعفة. وأصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم قادرة على تحليل الصور والفيديوهات المرسلة من المرضى في المناطق النائية، ثم إصدار تقرير أولي يُعرض على الطبيب لاحقاً.
ولا تعني هذه الخدمة توفير وقت المريض والطبيب فقط، بل تُمثل أيضاً أداة للحد من التفاوت في الحصول على الرعاية الصحية، خصوصاً في المجتمعات البعيدة أو الفقيرة.
اقرأ ايضا: بدء بيع تذاكر نزال كانيلو وكروفورد على لقب بطولة العالم
بهذه التطبيقات، يتضح أن الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان ليس مجرد رفاهية تكنولوجية، بل توجُّه عملي يغيّر طريقة التشخيص والعلاج والمتابعة، ويعيد صياغة العلاقة بين الطبيب والمريض، وبين العيادة والمجتمع.
رغم أن التقرير رسم صورة متفائلة لمستقبل الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان، فإنه لم يتغاضَ عن الجانب المظلم من المعادلة؛ فالمسألة لا تتعلق فقط بما يمكن للتقنية أن تقدمه، بل أيضاً بما قد تعجز عنه أو تُحدثه من تحديات جديدة، ومنها:
* القصور العلمي: أظهرت المراجعة أن أكثر من 70 في المائة من الدراسات كانت تجريبية أو محدودة العدد من حيث العينات؛ ما يجعل النتائج غير قابلة للتعميم على نطاق واسع. أي أن الطريق ما زال بحاجة إلى دراسات سريرية كبيرة وطويلة الأمد لإثبات الفعالية والأمان.
* المخاطر الطبية: لفت التقرير إلى أن استخدام الروبوتات الجراحية مع مرضى هشاشة العظام قد يؤدي إلى مضاعفات غير متوقَّعة، نظراً لحساسية البنية العظمية لديهم، ما يستدعي بروتوكولات أكثر دقة لاستخدام هذه التقنيات.
* البُعدان النفسي والاجتماعي: لا يزال عدد من المرضى يشعرون بالقلق أمام فكرة أن «آلة» تشارك في علاجهم؛ إذ يربطون الطب باللمسة الإنسانية للطبيب. هذا التحدي النفسي لا يقل أهمية عن التحديات التقنية، لأنه يحدد مستوى تقبّل المجتمع للابتكار.
* التكلفة العالية: الأجهزة المتقدمة والبرمجيات الذكية تبقى بعيدة عن متناول معظم العيادات الصغيرة أو المجتمعات محدودة الموارد، ما يهدد بتوسيع فجوة عدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية.
* التدريب والاعتماد: غياب بروتوكولات موحّدة لتدريب الأطباء على استخدام هذه الأنظمة يجعل الاستفادة منها متفاوتة بين بلد وآخر، بل وأحياناً بين عيادة وأخرى داخل البلد الواحد.
ولم يتوقف التقرير عند هذه العقبات، بل سجّل كذلك نقصاً واضحاً في الأدلة التنظيمية والأخلاقية، خصوصاً فيما يتعلق بالخصوصية وحماية البيانات وضمان العدالة في إتاحة الرعاية. وهي قضايا تزداد إلحاحاً في عصر البيانات الضخمة، حيث تصبح المعلومات الطبية للمريض أثمن من الذهب إذا لم تُحسن حمايتها.
في الوقت الذي خلا فيه التقرير البريطاني من أي إشارة إلى دراسات عربية، برزت المملكة العربية السعودية كاستثناء عالمي لافت، ليس في ميدان البحث العلمي المباشر، بل في صياغة الأطر الأخلاقية والتنظيمية التي تُعد الأساس لأي تطبيق ناجح للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية.
فمنذ عام 2019، أطلقت «الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA)» أول إطار أخلاقي عالمي للذكاء الاصطناعي، لتكون المملكة بذلك سبّاقة في استباق الأسئلة الحساسة التي يثيرها استخدام الخوارزميات في حياة البشر اليومية.
وفي عام 2023، خطت المملكة خطوة نوعية عبر اعتماد إطار وطني متكامل للذكاء الاصطناعي يتضمن 7 مبادئ أساسية: العدالة، الخصوصية، الشفافية، المساءلة، السلامة، التنوع، والاستدامة. وهذه المبادئ لم تكن مجرد شعارات، بل تحولت إلى مرجع عالمي استشهدت به مؤسسات أكاديمية وتنظيمية في أوروبا وآسيا.
ولم يمضِ وقت طويل حتى أحرزت السعودية إنجازاً غير مسبوق؛ ففي عام 2024، أصبحت أول دولة في العالم تنال شهادة «ISO 42001» الخاصة بإدارة موارد الذكاء الاصطناعي، وهو ما وضعها في صدارة الدول التي تقود صياغة المعايير الدولية. وإلى جانب ذلك، طورت أداة تقييم ذاتي مبتكرة تساعد المؤسسات على قياس مدى التزامها بالمعايير الأخلاقية في ممارساتها اليومية.
هذه النجاحات لم تأتِ بمعزل عن مشروع وطني أكبر هو «رؤية السعودية 2030»، التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب عملية التحول الشامل، ليس في الصناعة والاقتصاد فقط، بل في الصحة والتعليم والبحث العلمي، لتصبح المملكة مختبراً عالمياً يُوازن بين الابتكار التكنولوجي والمسؤولية الأخلاقية.
في عيادة الغد، لن يقف الطبيب وحيداً أمام صور الأشعة والبيانات الطبية المعقدة، بل سيكون بجواره مساعد افتراضي ذكي، يلتقط الأنماط الدقيقة التي قد تغيب عن العين البشرية، ويتنبأ بالمشكلات قبل حدوثها، ويقترح خططاً علاجية أولية يراجعها الطبيب بحكمته وخبرته.
أما المريض، فسيتحول من متلقٍ سلبي إلى طرف فاعل في رعايته، يتابع حالته عبر تطبيق على هاتفه الذكي، يتلقى تنبيهات حول صحة لثته ونظافة فمه، بل وربما توصيات مخصصة وفق نظامه الغذائي ونمط حياته اليومي.
إنها ليست مجرد صورة مستقبلية بعيدة، بل مسار يتشكل اليوم أمام أعيننا. فالذكاء الاصطناعي في طب الأسنان ليس رفاهية تقنية، بل ضرورة طبية وإنسانية، بشرط أن يُدار بوعي أخلاقي وتنظيمي كما فعلت السعودية في تجربتها الرائدة.
وهنا يطرح المستقبل سؤاله الحاسم: هل سنبقى متفرجين على ما يكتبه الآخرون عنّا؟ أم نخطّ نحن بأيدينا وعقولنا تقريرنا المقبل… وعيادتنا المقبلة؟