مذابح قرية الفاو

0

تحتلّ قرية الفاو مكانة رفيعة في خريطة المواقع الأثرية التي تمّ استكشافها في أقاليم المملكة العربية السعودية، وغالباً ما توصف بأنها أكبر هذه المواقع. من هذه القرية التي تتبع محافظة وادي الدواسر في منطقة الرياض، حيث تشرف على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي، وتجاور مجرى قناة تسمّى «الفاو»، استمدّت اسمها الحديث منها، خرج كمٌّ هائل من القطع الأثرية المتنوّعة تشهد لتعدّدية ثقافية مدهشة قلّ مثيلها. تحمل مجموعة كبيرة من هذه اللقى طابع اليمن القديم في جنوب شبه الجزيرة العربية، وتنقسم فئات عدة، منها فئة تحوي قطعاً منحوتة من الحجر الكلسي، استخدمت كمذابح في الطقوس الدينية المتبعة.

دخلت هذه المذابح الحجرية متحف قسم الآثار الخاص بجامعة الملك سعود بالرياض، وأبرزها مذبح أنجز على الأرجح بين القرن الرابع والقرن الأوّل قبل الميلاد، يبلغ طوله 42 سنتيمتراً، وعرضه 16 سنتيمتراً. يتكوّن هذا المذبح من قاعدة مستطيلة طويلة مجرّدة، تشكّل عموداً لكتلة شبه مكعّبة أعرَض حجماً، زُيّنت بحلّة من النقوش. في الجزء الأعلى من هذه الحلّة، يظهر قوس يعلوه قرص دائري في الوسط. يُعرف هذا العنصر الزخرفي بـ«العنصر النجمي»، ويحضر هنا بشكل ناتئ وسط إطار أفقي مجوّف، تحدّه مساحتان عموديتان مجوّفتان، اتخذتا شكل نافذتين. في الجزء الأسفل، يقف وعل ذو قرنين في وضعية جانبية، مديراً رأسه في اتجاه نخلة ذات 4 سعفات، يتدلّى من أعلى ساقها عذقان من التمر. وفقاً للصيغة المتبعة في التأليف، يستقرّ هذا النقش التصويري الناتئ وسط إطار أفقي مجوّف، تحدّه مساحتان عموديتان مماثلتان من النوافذ.

يحمل هذا المذبح نقشاً كتابياً اعتمد أبجدية ما يُعرف بالمسند الجنوبي، يتوزّع على نواحٍ عدّة منه. فوق صورة الوعل والنخلة، تظهر عبارة تتمثّل على الأرجح باسم «نمر»، وفي أسفل هذه الصورة، عبارة أخرى، معناها «سيد ادواران عفان». على واجهة عمود المذبح، تظهر كتابة غامضة لم تصل كاملة، تُسمّى كما يبدو «ابن ونت».

يشابه هذا المذبح في بنائه التكويني مذبحاً آخر يبلغ طوله 64 سنتيمتراً، وعرضه 25 سنتيمتراً، وهو أحدث عهداً، ويعود في الغالب إلى القرن الأول للميلاد. قاعدة هذا المذبح عمودية شبه هرمية، وتعلوها كتابة تسمّي «تحما بنت أوس»، وتضيف «اللات لكهل». واللات معبودة من المعبودات المؤنثة التي ارتبطت بالخصوبة في وجه خاص، واسمها شائع في سائر نواحي الطائف، ويتكرّر في عدد كبير من نقوش قرية الفاو. أما كهل، فهو معبود ساد في ممالك جنوب الجزيرة القديمة، حيث ارتبط بالغلبة والفلاح، وهو من أرباب قرية الفاو التي عُرفت قديماً بـ«قرية ذات كهل».

نوصي بقراءة: تأكيد أممي على استهداف دول الخليج بالمخدرات… ومعدلات التعاطي فيها أقل من المتوسط العالمي

يعلو هذه القاعدة العمودية مكعّب زُيّن بحلة نقشية تتمثّل بمساحة عريضة، تحدّها مساحتان عموديّتان تخرقهما نوافذ مجوّفة. يتوّج هذه المساحة العريضة «العنصر النجمي» التقليدي، وتظهر في وسطها كتابة تسمّي «ديات ابن تومايل». في موازاة هذه الحلة المتناسقة، يحضر فوق «العنصر النجمي» نقش يزيّن إطار هذا المكعّب، وقوامه خمسة مثلّثات متجانسة، مرصوفة كأسنان المشط.

تتكرّر هذه الصياغة النحتية بشكل مختزل على مذبح آخر من قرية الفاو، يعود كذلك إلى القرن الميلادي الأول، طوله 22.5 سنتيمتر، وعرضه 12 سنتيمتراً. قاعدة هذا المذبح صغيرة نسبياً، وهي شبه هرمية، ويعلوها مكعب يماثلها في الطول، يزينه «العنصر النجمي» المعهود. وفقاً للنسق الشائع، يظهر الهلال محتضناً القرص الدائري وسط مساحتين عموديتين مجوفتين، تعلو كلاً منهما نافذتان طويلتان.

يشكّل هذا العنصر النجمي علامة من علامات فنون الجزيرة العربية، ترافق هذا الصنف من المذابح منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وتنتشر في جنوب شبه الجزيرة العربية على مدى قرون من الزمن، وتبلغ بلاد الحبشة. حضر هذا العنصر في وسط جزيرة العرب، كما حضر في ساحل الخليج، وتجلّى في نواحي إقليم عُمان. ويصعب القول بأنه ارتبط بمعبود معيّن على وجه خاص؛ إذ نراه على مذابح وعلى قطع من الأثاث كُرّست على أسماء العديد من المعبودين، منهم المعبود المعروف باسم المقه، سيد الحماية والسلامة والحرب والشفاء والأمطار والزراعة في مملكة سبأ، والمعبود المعروف باسم ودّ، نظيره في مملكة معين.

يحضر هذا العنصر الزخرفي بشكل مميّز على مجمرة من قرية الفاو، تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهي ذات بنية أفقية، طولها 13 سنتيمتراً، وعرضها 29 سنتيمتراً. تجمع هذه القطعة بين ثلاثة مكعّبات، وتبدو أشبه بمجمرة ثلاثية، اقتصرت زينتها النقشية على ثلاثة عناصر فلكية متساوية ومتوازية، حلّ كل منها على القسم الأعلى من كل مكعب من أجزائها الثلاثة.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version